باستثناء قاع المجتمع المقوّى بالسلطة، يقف المجتمع في السويداء موقفًا واحدًا ضد ظاهرة التعفيش، التي استشرت بعد بدء العمليات العسكرية في درعا.
ونقرأ في هذا الموقف دلالتين مهمتين، الأولى أنه موقفٌ وحَّد بين أطياف المجتمع المختلفة، الموالية منها والمعارضة؛ وهذه وحدة نادرة. وعلى الرغم من اختلاف الدافع الذي يقبع خلف موقف كلٍ منها، إلا أننا نرى أن الكثير يمكن أن يُبنى استنادًا إلى هذه الوحدة، ولكن في سياق معين. والدلالة الثانية التي من الممكن أن نقرأها في هذا الموقف، هي ما يمكن أن نسميه "بصيصُ أملٍ بحياء الموالي".
وهذه قراءة تجعلنا نتوقف ونتحفظ قليلًا في البداية، فحتى القليل من الحياء في هذا الموضع يستحق حقًا التوقف والتأمل فيه؛ فصاحبه اختار الوقوف في صف من يدعم قتل أبناء وطنه على يد عصاباتٍ مجرمة!. وتجعلنا هذه القراءة نتساءل أيضًا، كيف يمكن أن نعادي التعفيش ونفهم أبعاده الحيوانية المقرفة، وفي الوقت نفسه لا نعادي سببه وخالقه ومعلمه الأكبر، وهو النظام...
يعني بصيغة أخرى، لماذا لم تقاربوا مشكلتكم الأخلاقية مع اللصوصية، على أنها بالضرورة مشكلة أخلاقية مع اللصوص أيضًا؟ كيف يمكن أن يكون لدينا مشكلة أخلاقية مع اللصوصية، وفي الوقت نفسه ليس لدينا مشكلة في احتضان اللصوص، والدفاع عنهم، وشرعنة سلوكهم، ودعم عصاباتهم؟!.
قبل محاولة الإجابة عن هذه الاسئلة، لا بد من أن نقول إن في هذا المشهد ما يدعو حقًا إلى التفاؤل، فعدم الرضا عن التعفيش من قبل المعارضين طبيعي جدًا، ومتسق مع تركيبتهم الأخلاقية المعروفة.
أما موقف الموالين، من مناهضة التعفيش فهو ما يدعو إلى التفاؤل إذ إنه يُحسب لهم موضوعيًا كموقفٍ فيه أخلاق، وفيه كرامة، ويدل على تمسكٍ بالإنسانية في عصر الحيونة، وهذه حقيقة ليس فيها مبالغة.
ولكن في المشهد ما يدعو إلى التشاؤم أيضًا، وهو أن الموالي يأخذ هذا الموقف النبيل أمام تعفيش برادٍ وغسالة -وهذا جميل ونقدره له- ولكنه يعجز عن اتخاذه أمام تعفيش وطن، أمام قتل إنسانٍ تحت التعذيب، ودفنه في مكان مجهول من دون عزاء.
جميل، بل ورائع، أن يصدر بيان من المشايخ يدين السرقة، ويفتي بأن الذي يتعامل بالبضاعة المسروقة لا يُصلى جثمانه إذا توفاه الله. ولكنه شيء محبط، وبشع جدًا، أن المشايخ أنفسهم لا يفكرون في أن الذين يموتون تحت التعذيب، يُدفنون من دون أن يصلي أحدٌ عليهم، ومن دون أي جريمة ارتكبوها سوى أنهم طالبوا بالكرامة!. الكرامة نفسها التي يحارب بيان المشايخ نقصَها بين "أبناء جماعتهم"- والتعبير وفق مصطلحاتهم. ونسأل فضيلتهم: كم مات تحت التعذيب من "أبناء جماعتكم" من السويداء نفسها؟ أليس هذا تعفيشًا؟ هل من المفروض أن يسرق الشبيحة غسالة وبراد ومكيف من بيت كل شهيد تحت التعذيب، وما أكثرهم في السويداء، لكي تعتبروا قتله مُدانًا، وقاتله مجرمًا؟!..
يبدو أن البعض لا يصدق الجريمة إلا حين يرى مسروقات، فتعفيش الغسالة والبراد، أوضح من تعفيش البشر من بيوتهم وقتلهم تحت التعذيب في السجون، وما أكثرهم!. شبابٌ يعرف الجميع كم من النبل والشرف والأخلاق والوطنية والصفات الحميدة كانوا يحملون، سلميون مدنيون لم يمسكوا يومًا بسلاح. ويعرف الجميع من قتلهم، لم يقتلهم الإرهاب، لم تقتلهم داعش ولا النصرة، ولا "قذائف الغدر".
قتلهم من قام بتعفيش العقل من مشايخ العقل، وترك صندوق الجمجمة بهذا الانفصام. قتلهم من قتل مالك الغسالة ومالك البراد، ومن قتل أولادهما في درعا. قتلهم القاتل نفسه يا فضيلة المشايخ، القاتل الذي نسيتم أمر الحلال والحرام بشأنه، وآثرتم حرمة شراء وبيع مسروقاته -ومرة أخرى نقول إن هذه التحريم أمر جيد ويدعو إلى التفاؤل، ولكن لكي يتسق مع الشخصية الإنسانية الأخلاقية -وحتى لاعتبارات دينية- يجب أن يتضمن موقفًا من اللص القاتل.
يجيب تشخيص الانفصام (الشيزوفرينيا) عن معظم التساؤلات في هذا السياق. انفصامٌ بين ما بقي من رصيد أخلاقي إنساني ينزع إلى الحب والسلم والغناء، وبين ما تراكم من حيونة الإنسان على يد آلة الموت والهمجية والتشبيح.
وأما القسم الثاني من الأسئلة والمتعلق بالذين يصدرون بيانًا يستجير باللصوص (الجهات الرسمية) لمكافحة اللصوصية (التعفيش)، فهذا لا تجيب عليه الشيزوفرينيا من دون استخدام عبارةٍ عامية تُستخدم في الجبل، هي "الذهن الكَلّيل"، بجميع ما تحمل من معانٍ ودلالات تذهب إلى ما وراء الغباء، وإلى انعدام المقدرة على التعلم والتغيير، وإن لم تكن مجرد "ذهنٍ كلّيل"؛ فهي لصوصية من نوعٍ أخطر.
وأخيرًا، مع ذلك نرى أن هذا البصيص من الحياء الذي نشهده اليوم، هو ما تبقى من رصيد أخلاقي، فإما أن نراكم عليه ويكبر لحجم إنسان مواطن أخلاقي، يعيش بأمانٍ مع أخيه الذي يشترك معه في الإنسانية والمواطنة، أو أن نخسره ونمشي في حيونة البلاد والعباد.
from أخبار سورية - زمان الوصل http://bit.ly/2NRSwx3
via IFTTT