في عام 2002 شاركت في مؤتمر بحثي في مركز جيمس بيكر للدراسات في الولايات المتحدة وكنت واحدة من بضعة مفكرين وسياسيين وأصحاب شأن حيث كان المؤتمر يهدف إلى شحذ الأفكار وإيجاد أرضيات عمل مشتركة في أكثر من مجال، وقد ركزت في ورقتي على دور المصطلح الإعلامي السائد في أجهزة الإعلام العالمية في إجهاض الحق العربي، وأوردت أمثلة كثيرة من الإعلام الغربي المقروء والذي يستخدم عبارات ومصطلحات تضليلية تعتبر بحد ذاتها أداة لإجهاض الحق العربي تضاف إلى الأدوات العسكرية والمخابراتية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية ولا تقلّ عنها خطورة.
وأوردتُ أمثلة شتى على ذلك؛ فمثلاً في كل أخبار العدو الصهيوني عن فلسطين وما يجري في فلسطين نجد أن الصيغة الوحيدة المتبناة من قبل الإعلام الصهيوني ومن ورائه الإعلام الغربي طبعاً هي صيغة المبني للمجهول ولا تجد أبداً في كلّ إعلامهم وعلى مدى كلّ هذه العقود صيغة المبني للمعلوم وذلك كي يبقى الفاعل مجهولاً، مثلاً: قُتل فلسطينيان، دُمّر منزلان مخالفان في القدس.
طبعاً دائماً ما يتم تدميره هو مخالف من وجهة نظرهم، بالإضافة إلى الإزاحة اللغوية المجانية والتي تهضم الحق العربي دون خوض معركة عسكرية أو سياسية، فبعد أن كان الحديث منذ عقود عن ضرورة تفكيك المستوطنات وإنهاء الاستيطان نهائياً في فلسطين والجولان انتقل الحديث إلى تجميد المستوطنات أو إلى الحدّ من سرعة الاستيطان أو إلى تجميد الاستيطان لمدة أشهر، ولكن لم يعد أحد يتحدث عن التخلص من المستوطنات لأنها لا شرعية ولا قانونية ولأنها أقيمت على أرض سكان أصليين بعد أن تمت مصادرة أراضيهم وتهجيرهم خارج الأرض وخارج الوطن بحجج وذرائع مختلفة.
منذ ذلك الوقت، وأنا أطلق الدعوات لإعادة تحرير الأخبار الصادرة عن «رويترز» أو عن أي وكالة أنباء عالمية أساسية، ولكني وللأسف ما زلت أرى على الشاشات العربية نقلاً مباشراً وحرفياً للخبر الإسرائيلي: «وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي أو وافق الكنيست على بناء مئتي مستوطنة في منطقة ما على أرض فلسطين»، بدلاً من أن يكون الخبر: «ترتكب قوات الاحتلال الإسرائيلي جريمة جديدة بتحويل قطعة أرض أخرى من الأرض الفلسطينية التابعة للسكان الفلسطينيين إلى مستعمرات للمستقدمين من اليهود الغرباء عن الأرض والديار».
إذاً هذه معركة المصطلح ومعركة الإعلام الدائرة منذ عقود والمستهدفة أصلاً للحق العربي والتي تشنها وسائل الإعلام الغربية بالتعاون والتعاضد مع قوى الاحتلال والاستيطان.
أما اليوم وبعد تسع سنوات من حرب ضروس على سورية وبعد ما حلّ بالعراق وليبيا واليمن ولبنان وانكشاف كلّ الوعود والأكاذيب التي أطلقها المستعمرون الجدد، وبعد ما حلّ بالعراق وليبيا وسورية واليمن من مآس دموية فقد تحرك بعض أصحاب الضمير في الغرب ليواجهوا الإعلام المرتهن للقرارات التي تستهدف العرب وفنزويلا وبوليفيا وروسيا والصين وكل من تسوّل له نفسه بالوقوف في وجه الليبرالية الغربية في أوج توحشها وإملاءاتها العقابية على العالم، وكان للمواقف التي أطلقها مفكرون وإعلاميون من بريطانيا وكندا وأستراليا في قضية «الخوذ البيضاء» والهجمات الكيميائية المزعومة أثر مهم في الإعلام الغربيّ، إذ كان هذا الإعلام ذاته قد كال التهم لحكومة الجمهورية العربية السورية باستخدام الكيميائي ضدّ أناس أبرياء.
ولكن وبعد كل ما نشرته «ويكيليكس» على لسان أعضاء في الفريق الذي كان مكلفاً التحقيق على الأرض، بأن من كتب التقرير ليس من قام بالتحقيق، وأنه تمّ تجاهل كلّ الحقائق التي سطرها الخبراء والمهندسون أثناء بحثهم عن الحقيقة في الأرض السورية، وكأحد نتائج هذه الفوضى والاستهداف الأكيد والمغرض، استقال طارق حداد من مجلة «نيوز ويك» وكتب مقالاً مهماً عن الكذب والافتراء في الإعلام الغربي حول سورية وقضايا أخرى والضغوط التي مورست على الإعلاميين كي يذكروا الأمور فقط كما يريدهم رؤساء التحرير أن يذكروها.
يستمر التشويه الإعلامي حول معظم القضايا الساخنة في العالم فتدعي الولايات المتحدة حرصها على مسلمي الصين في حين هي ترتكب عقوبات جماعية وإجرامية بحق مسلمي ومسيحيي سورية وليبيا واليمن والسودان وإيران وفنزويلا وقبلهم العراق، وترفق قانوناً مجرماً بحق الشعب السوري في ميزانية الولايات المتحدة كي تضمن أنه سيتم توقيعه من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في حين تحشد الآراء ضد سورية وروسيا وإيران لأنهم يحاولون اجتثاث الإرهاب من إدلب وتحرير الأرض والشعب هناك من عبث شذاذ الآفاق وإرهابيين تمّ استحضارهم من كلّ دول العالم لتدمير الدولة السورية، وتسمّيهم وسائل الإعلام الغربية بالمتمردين مع أنهم ينتمون إلى «جبهة النصرة» المصنفة دولياً منظمة إرهابية، أو يسمونهم حركة ضد الحكومة وهم يعلمون علم اليقين أن هؤلاء يشكلون عصابة من مجرمين متطرفين وإرهابيين تم الإتيان بهم من كل دول العالم لتقويض سيادة الدولة السورية.
من الواضح من كل ما أتت به وسائل الإعلام الغربية من الـ«بي بي سي» والـ«سي إن إن» والـ«واشنطن بوست» وغيرها، أن الهدف من «قانون قيصر» هو منع عودة الحياة الطبيعية إلى الملايين من الشعب السوري بعد أن قام بتحرير معظم الأراضي من براثن الإرهاب، وترويع الحكومات والدول التي تستعيد علاقاتها مع الدولة السورية وتوجيه ضربة إلى روسيا، والتي في رأيهم أصبحت صاحبة مصلحة بعودة الهدوء وإعادة الإعمار إلى سورية، ومنع أي جهد قد يعيد العلاقات بين الدول العربية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف بالذات وضعت الولايات المتحدة يدها على آبار النفط السوري في قرصنة دولية مدانة لا سابقة لها في التاريخ إلا في أيام الاستعمار المتوحش في القرون الماضية متجاوزة بذلك دولة عضو في الأمم المتحدة وحق الشعب السوري في ثروات أرضه.
كل هذه الإجراءات تعتبر استمراراً للحرب التي بدؤوها عام 2011 من خلال أدواتهم من الإرهابيين والخونة المرتزقة، ولكن وبعد كل تضحيات الجيش السوري وحلفائه وتمكنهم من دحر الإرهاب عن معظم أراضيه، استعرت المعركة الإعلامية متشبثين بأمل هزيمة إرادة الشعب السوري وتشديد الخناق عليه اقتصادياً وممارسة العقوبات الجماعية عليه في كلّ المجالات وبما يتناقض مع الشرعية الدولية والقانون الدولي أملاً منهم بكسر إرادة هذا الشعب من خلال الحصار بعد أن فشلوا في كسر إرادته من خلال عملائهم من الإرهابيين وكل الإجرام الذي مارسوه على الأرض وبحق البلد والشعب.
أما القول إن القوانين المجرمة تستهدف الرئيس بشار الأسد أو النظام، فهو فقط لذرّ الرماد في العين، مع أن استهداف الأنظمة بحد ذاته جريمة دولية، لأن المستهدف هو الشعب السوري برمته، بثرواته وأرضه وسمائه، ولا بدّ من شحذ أدوات الإعلام والمعرفة والسياسة والدبلوماسية لدى كلّ الدول التي تعاني من استباحة غربية لمكوناتها ومقدراتها، ولابدّ من تحرير كلّ خبر، صغر أم كبر، بما يتناسب والوقائع على الأرض وتسديد الخطى بالتعاون مع الإعلام البديل في الغرب والذي يبذل جهده لكشف أكاذيب وخداع إعلام الحكومات الغربية المسيرة من قبل الحكومات العميقة والذي يهدف إلى استمرار تمكينها من نهب ثروات الشعوب، ووضع العقوبات في طريق اعتلاء الصين سلّم القطب الأول في العالم.
لقد حان الوقت لتنسيق دولي مدروس ومنظم يقف في وجه هذه الهجمة الاستعمارية الشرسة من تحرير الخبر إلى تحرير الأوطان، ولا شك أن قرار المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية يعتبر خطوة مهمة على طريق استرداد العدالة الدولية الحقيقية والوقوف بصلابة في وجه الاحتلال والاستيطان وتزييف الحقائق.
لنبدأ من تحرير الخبر ونشر أخبارنا نحن والحقائق على أوسع نطاق.