ربّما تكون مُحافظة إدلب في الشّمال الغربيّ لسورية هي محور الاهتمام الأبرز هذه الأيّام بسبب تقدّم قوّات الجيش العربي السوري فيها، واستِعادة عشَرات القُرى والبلدات وأربع مُدنٍ كُبرى، وفتح الطّريق الدولي بين حلب ودِمشق، وبسبب التّعزيزات والتّهديدات العسكريّة التركيّة فيها، ووصول حالة التوتّر بين الجانبين السوري والتركي إلى حافّة المُواجهة الشّاملة، لكنّ التطوّرات التي تجري حاليًّا في مُحافظة الحسكة في الشّمال الشرقيّ لا تقل أهميّةً في نظرنا، خاصّةً بعد الصِّدامات غير المسبوقة بين عناصر تابعة للجيش العربي السوري ودوريّة أمريكيّة مُدرّعة ممّا أدّى إلى إصابة جُنديين أمريكيين، واستِشهاد جندي سوري للمرّة الأولى مُنذ بَدء الأزمة قبل تِسع سنوات.
اعتِراض القوّات السوريّة لقافلة عسكريّة أمريكيّة لا يُمكن أن يتم إلا بتعليماتٍ واضحةٍ، وصريحةٍ من قِيادتها السياسيّة والعسكريّة في دِمشق، الأمر الذي يُنبِئ باتّخاذ قرارات استراتيجيّة بتفعيل المُقاومة المسلّحة ضِد قوّات الاحتِلال الأمريكيّ وفتح جبَهة شرق الفرات.
ما يُؤكِّد هذا التحوّل حُدوث اشتِباكات في الوقت نفسه بين أهالي وجماعات في القامشلي مُوالية لدِمشق مع القوّات الأمريكيّة، ممّا أدّى إلى استِشهاد صبيّ لا يزيد عُمره عن 14 عامًا، وتوارد تقارير إخباريّة عن تحضيراتٍ لمُقاومة مُسلّحة ضِد الدوريّات والوجود الأمريكيّ.
فتح جبهة ضد القوّات الأمريكيّة في الشّمال والشّرق السوري، ربّما يكون أمرًا مُستغربًا خاصّةً في ظِل التوتّر الحاليّ في مُحافظة إدلب، ووصوله إلى حافّة المُواجهات العسكريّة بين القوّات السوريّة ونظيرتها التركيّة، ولكنّ مصادر لبنانيّة مُقرّبة من الحُكومة السوريّة قالت لـ”راي اليوم” إنّ منسوب القلق من هذه المُواجهة مُنخفضٌ، لأنّ الحليف الروسي مُتمسِّكٌ بمطالبه بإنهاء وجود الجماعات الإرهابيّة في إدلب، ومُستَعدٌّ للذِّهاب إلى نِهاية الشّوط حِفاظًا على مُكتسباته في سورية حتى لو وصل الأمر إلى مُواجهةٍ مع الأتراك.
الوجود العسكريّ الأمريكيّ في شِمال وشرق الفرات بات يتعزّز ويتعلّق بالدّرجةِ الأولى بالخُطط الأمريكيّة وباستِمرار السّيطرة على احتِياطات النّفط والغاز السوري، ونهب إنتاجها، أو منع الجيش العربي السوري من استِعادتها لسيادة الدولة السوريّة في إطار سِياسات الحِصار والضّغط الاقتصاديّ الذي تُمارسه إدارة ترامب ضِد سورية لمنع تعافيها، وتأزيم الوضع الداخليّ فيها، وعرقلة مُخطّطات إعادة الإعمار، وهُناك أنباء عن عزم واشنطن إقامة قاعدة عسكريّة دائمة على غِرار قواعدها في العِراق.
الرئيس بشار الأسد ألمح في مُقابلته مع شبكة “روسيا اليوم” التلفزيونيّة قبل شهرين بأنّ أمريكا دولةٌ عُظمى لا يُمكن مُواجهتها بالجيش السوري في حربٍ تقليديّة للفارق الكبير جدًّا في موازين القِوى، ولكن يُمكن أن تكون هذه المُواجهة بأعمال المُقاومة المسلّحة، ويبدو أنّ تطبيق هذه الاستراتيجيّة بدأ يدخل مرحلة التّفعيل الأوليّة حاليًّا، في توازنٍ مع استراتيجيّة عراقيّة مُماثلة على الجانِب الآخر من الحُدود بين البَلدين.
السوريّون يملكون خبرةً هائلةً في حُروب المُقاومة الاستنزافيّة اكتسبوها من خِلال دورهم الكبير في دعم أذرع المُقاومة العِراقيّة للاحتِلال الأمريكيّ بعد غزو العِراق عام 2003، وقبلها في لبنان وفِلسطين المحتلّة عبر فصائل المُقاومة، وجدّدوا هذه الخبرة وطوّروها مُنذ اندلاع الأزَمة السوريّة عام 2011، وحربهم الشّرسة ضِد الجماعات المُسلّحة وهزيمتها، واستِعادة أكثر من 80 بالمِئة من الأراضي إلى سِيادة الدولة السوريّة، ولا يُمكن تناسي دور “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني في هذا المِضمار، وهو الدّور الذي أثار حالةً من القَلق والرُّعب في صُفوف الإسرائيليين، وما زال.
الجيش العربي السوري الذي يُقاتل بضراوةٍ على عدّة جبهات في الوقتِ نفسه، سيستعيد حتمًا سيادة الدولة على مدينة إدلب، وكُل الجُيوب الأُخرى في ريف حلب، مثلما سيستعيد حُقول النّفط والغاز في شرق الفرات، ويطرد كُل الأمريكيين من المِنطقة، وساعة الصّفر ربّما بدأت في الحسكة، والمسألة مسألة وقت.. والأيّام بيننا.