في وقتٍ تحاول تركيا الدفع عسكرياً لتحصيل مكاسب سياسية في سوريا، فإنها تجد نفسها متورطة بشكل تدريجي في حقل من الألغام السياسية والعسكرية، الأمر الذي يحولها من قوة فاعلة في المنطقة إلى هدف مباشر لصراع إقليمي ودولي أصبحت فيه “الحلقة الأضعف”، فيما بات ثمن الخروج من هذا “المأزق” مضاعفاً.
هجوم جديد نفذته القوات التركية المنتشرة في إدلب على مواقع للجيش السوري بهدف استعادة منطقة استراتيجية، بما يضمن لها نقطة قوة في المفاوضات التي تجريها مع روسيا، قبل أن ينقلب هذا الهجوم عليها، ويضاعف من خسائرها، سواء العسكرية أو السياسية، أو حتى على صعيد البيت التركي الداخلي.
الهجوم الفاشل الذي نفذته قوات تركية، تؤازرها فصائل مسلحة من بينها “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام)، والذي كان يهدف إلى السيطرة على بلدة النيرب الاستراتيجية، والاقتراب أكثر من مدينة سراقب التي تستميت تركيا للسيطرة عليها، لما لها من أهمية استراتيجية كونها تشرف على طريقي حلب – دمشق وحلب اللاذقية (M5 و M4)، ردت عليه موسكو ودمشق بقوة، حيث استهدفت القوات السورية مواقع إطلاق القذائف التركية، وتمكنت من تدمير مدرعات وعربات تركية شاركت في الهجوم، في حين تدخّل سلاح الجو الروسي الذي قضى على ما تبقى من آمال تركية لتحقيق خرق في هذه المنطقة.
وزارة الدفاع التركية التي اعترفت بمقتل جنديين فقط، وإصابة عدد آخر، رفعت مجدداً من نبرة تهديداتها بأن “دماء الجنود الأتراك لن تضيع سدى”، في وقت مررت خلاله روسيا رسالة واضحة عبر الناطقة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا حول ضرورة استمرار التواصل عبر قنوات الخبراء، دون ان تعطي لتصريحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان اية قيمة فعلية.
ومما قالته زاخاروفا: “في ما يخص هذه التصريحات، ثمة دول عدة تحسب أن بإمكانها الإدلاء بها، مع أنه، من وجهة نظرنا، ينبغي في مثل هذه الظروف، تفعيل قنوات الخبراء، قبل كل شيء، فلهذه القنوات إمكانات هائلة”.
بين نارين
الهجوم التركي تزامن مع الذكرى الثامنة والستين لانضمام تركيا إلى حلف الناتو، ومع إعلان الحلف دعمه “السياسي” لتركيا، وسط مطالب تركية بأسلحة نوعية تستطيع من خلالها التصدي للطائرات الروسية، وفق ما ذكرت وكالة بلومبيرغ الأميركية، ليزيد فشل هذا الهجوم من تعقيدات المشهد السياسي بالنسبة لتركيا، حيث وجدت نفسها بين خيارين صعبين.
يتمثل الخيار الأول بالرضوخ لروسيا التي تربطها بها مصالح اقتصادية كبيرة، مع اقتراب موسم السياحة الذي تدرك أنقرة أهمية روسيا فيه، بالإضافة إلى الأسواق الروسية التي قد تُغلق في وجه الأتراك، وما سيترتب على ذلك من تبعات اقتصادية وسياسية مؤلمة لتركيا، خصوصاً أنها خبرت هذه التجربة بشكل جزئي بعد إسقاطها طائرة روسية العام 2015، قبل أن يجد رجب طيب اردوغان نفسه مجبراً على الاعتذار.
خيار الرضوخ لروسيا سيخلق لتركيا أزمة داخلية وسياسية كبيرة، فمن جهة تخشى أنقرة من تسرب الفصائل “الجهادية” إلى أراضيها، ومن جهة أخرى فإن المشروع الذي تطرحه موسكو سيسحب إدلب من يد تركيا، وينهي أحلامها “العثمانية”، وسيضع حكومة إردوغان في مأزق داخلي أمام الشعب التركي الذي ينتظر تحركاً تركياً يتوازى مع حدة التصريحات السياسية، بالإضافة إلى خطر موجات النزوح التي قد تشهدها تركيا مع استمرار تقدم الجيش السوري، خصوصاً مع ارتفاع الأصوات الدولية التي تطالب تركيا بفتح حدودها أمام النازحين السوريين، وآخرها تصريحات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين (UNHCR) التي تطالب تركيا بفتح حدودها أمام موجة نزوح تقدر بنحو 900 ألف شخص.
أما الخيار الثاني، والمتمثل بالمواجهة مع روسيا، فعلى الرغم من أنه غير مضمون العواقب، في ظل عدم موثوقية الولايات المتحدة وحلف الناتو عموماً في الإقدام على اتخاذ خطوة مجنونة بإشعال فتيل حرب مع روسيا، وهو سيحمّل أنقرة أعباء مستقبلية عديدة، تتمثل بالرضوخ للولايات المتحدة، والعودة إلى حضنها، بعدما حاولت خلال السنوات الماضية الخروج منه عبر صفقة الأسلحة الروسية (منظومة “أس-400”)، والتي تسببت بشرخ كبير في العلاقة بين تركيا وحلف الناتو عموماً، لما تمثله هذه المنظومة من خطر على سلاح الطيران للحلف كاملاً.
بالإضافة إلى ذلك، يفتح الانفتاح التركي على واشنطن الباب على مصراعيه أمام الخطر الكردي الذي ترعاه الولايات المتحدة في خاصرة تركيا الجنوبية، الأمر الذي سيمكن الولايات المتحدة من وضع حد للعمليات العسكرية التركية في الشمال الشرقي من سوريا، بالإضافة إلى محاولة واشنطن إعادة تقوية شوكة الأكراد قرب الحدود التركية، لضمان وجود أدوات ضغط فعالة على تركيا في أية ملفات عالقة مستقبلية بين الطرفين، ويضاف إليها خطر الانسحاب من العقود العسكرية مع روسيا وعدم تفعيل منظومة “أس-400″، بالتزامن مع رفض الولايات المتحدة تقديم أي بديل لهذه المنظومة، ما يمثل خسارة عسكرية كبيرة لأنقرة.
خطر داخلي
في الوقت الذي تحاول فيه حكومة “حزب العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا إيجاد معادلة دولية تخرج تركيا من المأزق السوري، ظهر له منافس قوي يحظى بدعم أوروبي، وقد يسحب البساط من تحته، ويستغل الهفوات التركية في قلب المزاج التركي وتغييره ضد “حزب العدالة والتنمية” والتيار الإسلامي التركي بشكل عام.
الرئيس التركي السابق عبد الله غول، أحد أعمدة “حزب العدالة والتنمية” سابقاً، خرج في خطاب له ينتقد سياسة إردوغان بشكل كامل، وسياسة “العدالة والتنمية” و”الإسلام السياسي” بشكل خاص، معتبراً أن “الإسلام السياسي” أصبح بائداً ولا يتناسب مع تركيا الديموقراطية.
كما انتقد النظام الرئاسي الذي بناه اردوغان في تركيا، مطالباً بالعودة إلى النظام البرلماني الذي خلق تركيا الحديثة والقوية.
غول الذي أعلن دعمه لتحركات علي باباجان وزير الاقتصاد التركي الأسبق، والعضو السابق في حزب “العدالة والتنمية”، والذي أعلن عن فتح الباب لمن يود الانتساب إلى حزب جديد يقوم بتأسيسه، وسيعلن عن موعد إطلاقه في وقت قريب، من المتوقع أن يتمكن من تحقيق شرخ كبير في الأوساط السياسية التركية، الأمر الذي يترتب عليه تراجع شعبية “العدالة والتنمية” وتراجع سلطة إردوغان تدريجياً.
وعلى خلاف خصوم اردوغان الآخرين في تركيا، يحظى باباجان وغول بشعبية كبيرة في الشارع التركي عموماً، وداخل “حزب العدالة والتنمية” على وجه الخصوص، الأمر الذي سيعرض إردوغان إلى خسائر سياسية فادحة في حال الإعلان رسمياً عن إطلاق هذا الحزب. كذلك، يحظى باباجان بعلاقات قوية مع دول الاتحاد الأوروبي، وقد انتقد، هو وغول، أكثر من مرة انحياز تركيا إلى جانب روسيا وابتعادها عن الناتو ودول الاتحاد الأوروبي.
ويبدو أن باباجان ينتهز فرصة مناسبة للإعلان عن حزبه بشكل رسمي، حيث يمثّل أي إخفاق لاردوغان في إدلب، الملف الأهم في الوقت الحالي بالنسبة للشارع التركي، فرصة لباباجان وغول لتوجيه صفعة سياسية قوية لإردوغان، الأمر الذي يزيد بدوره من أزمة الرئيس التركي الذي يجد نفسه محاصراً على جميع الجبهات.
ضغوط اقتصادية.. والبحث عن توازن
مع ارتفاع منسوب التوتر التركي – الروسي خلال الفترة الماضية، انخفض عدد الراغبين من روسيا بقضاء جولاتهم السياحية داخل تركيا ، وفق ما ذكرت رئيسة مشغلي الرحلات السياحية الروسية (ATOR)، مايا لوميزديه، التي أوضحت خلال تصريحات صحافية نقلتها وكالة “سوبتنيك” الروسية أن “العديد من الراغبين بالسفر مترددون في اتخاذ قرارهم، يتساءلون حول إمكانية السفر إلى تركيا وإذا كانت آمنة، وهل يمكن إلغاء الرحلة في اللحظات الأخيرة”، الأمر الذي يهدد الموسم السياسي لتركيا بشكل كبير، خصوصاً أن السياح الروس يتصدرون المرتبة الأولى في قائمة السياح الأجانب الذي زاروا تركيا خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2019، إذ تشكل نسبتهم 15.28% من مجموع السياح، بحسب ما ذكرته وكالة “الأناضول”.
وفي إجراء يستهدف تخفيف أثر هذا الانخفاض في قطاع حيوي يمثّل أحد أعمدة الاقتصاد التركي، أعفت تركيا مواطني خمس دول في أوروبا من تأشيرة الدخول إليها، حيث أعلنت أن الإعفاء يشمل مواطني كل من النمسا، بلجيكا، هولندا، إسبانيا، والمملكة المتحدة. وذكرت وزارة الخارجية التركية أن هذه الخطوة تأتي “لتعزيز النشاط السياحي، وتطوير العلاقات التجارية والاقتصادية بين شعوب هذه الدول وتركيا”.
يشار إلى أن السياحة ساهمت العام الماضي 2019 بنحو 12.1 في المئة من الاقتصاد التركي، حيث بلغت قيمة الواردات من هذا القطاع نحو 96 مليار دولار، وفق أرقام رسمية تركية.
كذلك، بدأت تعاني تركيا أزمة في عمليات تصدير المنتجات الزراعية إلى روسيا، التي تمثّل أحد أهم الأسواق للمنتجات الزراعية التركية، الأمر الذي شكّل بدوره تهديداً كبيراً لقطاع اقتصادي هام، الأمر الذي دفع أنقرة للبحث عن بدائل لهذه الأسواق.
وعلى الرغم من رفع تركيا من حدة التصريحات المناوئة لروسيا، فهي ما زالت تتعامل موسكو مع الأمر بهدوء شديد سياسياً، وتردع أي تحرك عسكري على الفور، دون إغلاق أبواب التفاوض مع أنقرة، سواء بشكل مباشر عبر قنوات التواصل العسكرية والأمنية، أو حتى عن طريق الاستعانة بطرف ثالث مقرب من تركيا، الأمر الذي يفسر إعلان روسيا عن عقد قمة ثلاثية في إيران في مطلع آذار/مارس المقبل، في حال وافقت تركيا على هذا الأمر، فيما طلب تركيا تدخل فرنسا وألمانيا، والسعي لعقد سلسلة من الاجتماعات الثلاثية والرباعية.
اقرأ المزيد في قسم الاخبار
وأمام هذه المعطيات، يبدو أن تركيا أمام خيارات صعبة وضعتها بنفسها، ذات أثمان مرتفعة، عليها اختيار أحدها، أو مواصلة البحث عن توازن يضمن لها الخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر الممكنة، وجميعها لا يشمل إجبار سوريا وروسيا على التراجع إلى حدود “سوتشي” الذي تطمح إليه، الأمر الذي يشكل بمجمله صورة قاتمة للأيام المقبلة، تختلف عن الأعوام السابقة التي برعت خلالها أنقرة في تحصيل مكاسب على مختلف الجبهات.