استَعادت قوات الجيش السوري مدينة مُجدّدًا “سراقب” ذات الموقع الاستراتيجيّ شِمال غرب سورية، بعد معارك عنيفة مع الفصائل المسلّحة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام "النصرة الارهابية سابقًا" المدعومة من تركيا، وفي تحوّلٍ عسكريٍّ قلَب كُل المُعادلات السياسيّة والعسكريّة في هذه الأزَمة.
لم تَدُم سيطرة هذه الفصائل على المدينة إلا ثلاثة أيّام فقط، ممّا يعني دحرها في زمنٍ قياسيٍّ وإعادة فتح الطّريقين الدوليين اللّذين يَربِطان دِمشق بحلب (إم 5)، وحلب اللاذقيّة، واحتِفاظ الجيش السوري بجميع المُدن والبلدات والقُرى التي أعادها لسِيادة الدولة السوريّة في الأسابيع الأخيرة في ريف إدلب بدعمٍ روسيٍّ وتزيد مِساحتها عن 600 كِيلو متر مربّع.
النقيب ناجي مصطفى، النّاطق الرسمي باسم الجبهة الوطنيّة للتّحرير التي تُمثِّل فصائل المُعارضة المسلّحة، اعترف لوكالة “فرانس برس” باستِعادة الجيش السوري سيطرته على المدينة بعد مُواجهات عنيفة، وأكّد المرصد السوري المُعارض هذا التطوّر الذي جاء مُفاجئًا للجميع، والطّرف التركيّ خاصّةً، الذي حشَد أكثر من 15 ألف جندي، وثلاثة آلاف دبّابة وعرَبة مدرّعة، لفرض الانسِحاب السوري من كُل ريف إدلب بالقوّة.
وصول ألف مُقاتل من قوّات “حزب الله” إلى سراقب، والمُشاركة الفوريّة في المعارك هو الذي أدّى إلى قلب المُعادلات وتحقيق هذا الاختِراق، تمامًا مِثلما فعل في مِنطقة القصير غرب سورية قرب الحُدود اللبنانيّة عام 2015، ومن غير المُعتقد أن يقتصر قِتال هذه القوّات على مِنطقة سراقب، وهُناك تقارير تُؤكِّد أنّ معركتها المُقبلة ستكون مع القوّات التركيّة أيضًا إلى جانب فصائل المُعارضة المُتشدّدة، وجبهة “النصرة” خاصّةً.
استِعادة سراقب الاستراتيجيّة ربّما تكون “النّكسة” الأولى عسكريًّا وسياسيًّا لعمليّة “درع الربيع” التي أعلن الرئيس أردوغان شخصيًّا عن شنّها بعد انتهاء المُهلة التي أعطاها للجيش السوري للانسِحاب من كُل المواقع التي استولى عليها وإلى خلف نُقاط المُراقبة العسكريّة التركيّة، فجاء الرّد حاسِمًا وصاعِقًا في سراقب.
وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، قال إنّ القوّات التركيّة أسقطت طائرتين سوريتين مُقاتلتين من طِراز (سوخي 24) وثماني طائرات هليكوبتر وعشَرات الدبّابات، وخمسة أنظمة دفاع جوي، ولكنّ كُل هذه الخسائر على أهميّتها تتواضع أمام الأثر المعنويّ السلبيّ المُترتّب على خسارة سراقب، وبثّ التلفزيون السوري لوجود الجيش السوري في قلبها، فهذا الإنجاز سيرفع معنويّات هذا الجيش وقِيادته وأنصاره إلى قمّةٍ غير مسبوقة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يُوافق على استِضافة الرئيس رجب طيّب أردوغان في موسكو لبحث موضوع إدلب إلا بعد أن ضَمِن استِعادة الجيش السوري وحُلفائه لمدينة سراقب، بدعمٍ مُباشرٍ من قوّاته وطائِراته، ولعلّ التّصريح الذي أدلى به ديمتري بيسكوف، المتحدّث باسم الكرملين مساء أمس، وقال فيه بكُل وضوح إنّ روسيا هي الدولة الوحيدة الحاضرة في سورية بصُورةٍ شرعيّةٍ وبطلبٍ من حُكومتها، وأنّ كُل القوّات الأُخرى موجودة في سورية بشَكلٍ مُخالفٍ لقواعد ومبادِئ القانون الدولي، وأنّ الجيش السوري يُحارب الإرهابيين، هذا التّصريح هو البند الأوّل الذي أراد الرئيس بوتين وضعه على قمّة جدول أعمال لقائه المُقرّر يوم الخميس المُقبل في العاصمة الروسيّة مع الرئيس التركي.
عندما تقول وزارة الدفاع الروسيّة وفي بيانٍ رسميّ أصدرته الأحد أنّ روسيا لن تكون قادرةً “الآن” على ضمان سلامة الطّائرات التركيّة في سورية بعد أن أغلقت حُكومتها المجال الجويّ شماليّ البِلاد، فإنّ هذا يعني أنّ منظومات الدّفاع الجويّ الروسيّة والسوريّة ستُسقِط أيّ طائرة تركيّة تخترق هذه الأجواء، وهذا ما يُفَسِّر سُقوط ثماني طائرات تركيّة مُسيّرة في اليَومين الماضيين فقط كانت في طريقها لضرب قوّات سُوريّة.
هذا الموقف الروسي الدّاعم بصلابةٍ للحليف السوريّ، جاء ردًّا على طلب الرئيس أردوغان لنظيره الروسي بالوقوف جانبًا والابتعاد عن طريق القوّات التركيّة المُتوغّلة والمُقاتلة في إدلب وريفها، وهو طلبٌ غريبٌ يَعكِس قراءةً خاطئةً للاستراتيجيّة الروسيّة في سورية، وطبيعة التّحالف بين البلدين، فهل يتوقّع الرئيس التركيّ تخلّي روسيا التي خَسِرَت المِليارات والعديد من الجِنرالات والجُنود في سورية على مدى خمس سنوات حتى تنجح حملته في إدلب؟
بوتين لا يُريد أن يصل أردوغان إلى موسكو ويلتقيه وهو في موضع القويّ الذي يستطيع أن يُملِي شُروطه، وليس أمام الرئيس التركيّ أيّ خِيار آخر غير الانسِحاب من إدلب وتنفيذ بُنود اتّفاق سوتشي كاملةً، وأبرزها التخلُي عن الفصائل المُعارضة المُصنّفة إرهابيًّا، وإخراجها من إدلب، وعودة المدينة إلى سيادة الدولة السوريّة كامِلةً، وإلا ستكون النّتائج في غير صالِحه وبلاده أيضًا.
***
عمليّة “درع الربيع” التي أعلن الرئيس أردوغان عن شنّها في مِنطقة إدلب وريفها بعد انتِهاء مُهلته وتهديداته للجيش السوري، سيكون من الصّعب عليها أن “تُزهِر” في ظل هذا الموقف الروسيّ الصّلب والدّاعم للحليف السوري، وبعد وصول مُقاتلي “حزب الله” وإيران ومُشاركتها الفوريّة في ميادين القتال، وتخلّي الجميع، حرفيًّا الجميع، عن الرئيس أردوغان، وتَركِه وحده في هذه المِصيدة التي جرى نصبها لهُ بإحكام، وأوّلهم حِلف النّاتو والرئيس دونالد ترامب، وهذا هو الفَرق بين من يُراهِن على الروس، ومن يُراهِن على الأمريكيين وحلف “النّاتو”.
مرّةً أخرى نقول إنّ القمّة الثلاثيّة السوريّة التركيّة الإيرانيّة التي اقترحها الرئيس حسن روحاني لبحث أزمة إدلب، هي طوقُ النّجاة للجميع، وإذا كانت هذه القمّة لا تُعجِب الرئيس أردوغان، فلا بأس من تحويلها إلى أخرى “رباعيّة” بمُشاركة الرئيس بوتين، وعَقدِها في موسكو بدلًا من طِهران، وربّما يكون من المُفيد الرّد السّريع على هذه المُبادرة حقنًا للدّماء وتقليصًا للخسائر.
الأمر الذي يجب أن يُدركه الرئيس أردوغان، أنّه لا يستطيع أن يكون حليفًا لنظيره الروسي، ويدعم في الوقت نفسه هيئة تحرير الشام، وأجناد القوقاز، وكتائب السلطان مراد وغيرها من الفصائل المُصنّفة إرهابيًّا من قبل موسكو وواشنطن أيضًا، فالتّحالف مع الجانبين معًا في الوقتِ نفسه مِثل مُحاولة خلط الزّيت والماء في زجاجةٍ واحدةٍ.. اللّهمُّ إلا حصلت “معجزة” ونحنُ لسنا في زمن المُعجزات على أيّ حال.. واللُه أعلم.