تدخل تركيا الحرب مباشرة من أجل شيء واحد فقط هو الاحتفاظ بإدلب، يبدو خطاب تركيا دفاعا عن هذا التدخل والتصعيد العسكري متناقضا ويفتقد للتماسك، لكنه مصحوب بدعاية قوية يتولى تسويقها في العالم العربي التيار الإخواني بآلة إعلامية متطورة ومنتشرة.
هو خطاب اعتمد ابتداء على مقولة إلزام الحكومة السورية باتفاق سوتشي، لكن المؤكد أن أنقرة لم تف بأي التزام من هذا الاتفاق سوى نشر نقاط مراقبة لها في أماكن مختلفة من إدلب وريفها وريف حلب. وعملت على تقوية الجماعات المسلحة داخل منطقة سوتشي .
هي ذاتها طلبت أكثر من مهلة من موسكو لتطبيق بنود الاتفاق المتعلق منها بسحب الجماعات المسلحة من المسافة المتفق عليها في سوتشي وفصل الجماعات المصنفة إرهابية عن تلك التي أصبحت تابعة لها مباشرة في الشمال وقد حصلت على مهلة لمدة عام ونصف.
لكن النتيجة هو المواجهة الراهنة وقتال الجيش التركي مع الجماعات الإرهابية كتفا لكتف. وهذا كشف عدم صدقية أردوغان فيما تعهد به للروس في إطار اتفاق وقع عليه بنفسه. يتجاهل الأتراك اليوم هذه الحقائق ويطرحون رواية معاكسة تماما .
أما الجانب المتعلق باللاجئين فهو جانب تجعله تركيا أحد أسباب تدخلها العسكري، وتقول إنها لا تحتمل المزيد من اللاجئين، لذلك عليها منع ذلك عبر عملية عسكرية تعرقل تقدم القوات السورية، في حين أن وقائع الميدان تؤكد أن الروس والحكومة السورية حاولا فتح معابر إنسانية في ريف ادلب لاستقبال اللاجئين إلى مناطق أمنه داخل سوريا. إلا أن تركيا منعت ذلك بشكل مشدد.
بالمناسبة هنا فإنه من المفيد تذكر هذا الخطاب ذاته فيما يخص المدنيين في مدن سيطر عليها الجيش السوري خلال السنوات الماضية، مثل مضايا وداريا والغوطة الشرقية ووادي بردى في ريف دمشق ومناطق ومدن أخرى. حينها كان الخطاب يقول إن الجيش السوري والحكومة السورية تقوم بعملية تهجير ممنهج وتغيير ديمغرافي. والزائر لهذه المناطق اليوم يدرك بشكل ملموس عودة معظم أهل تلك المدن إلى بيوتهم، وعودة الحياة الطبيعة لها.
بالمقابل أجرى الأتراك عملية تهجير وتغيير ديمغرافي ممنهج للمدن التي سيطروا عليها خلال عملتي درع الفرات وغصن الزيتون، ومنعت كل سكان تلك المناطق من العودة، واسكنت بدلا عنهم عائلات الجماعات المسلحة المحلية التي رفضت المصالحات والتسويات مع الحكومة السورية في المناطق التي سيطر عليها الجيش السوري، وفضلت الانتقال شمالا عبر حافلات امنتها الحكومة السورية لهم.
الخطاب التركي الذي تسوقه للرأي العام العربي بصيغة إنسانية في ملف اللاجئين، تستخدمه في الخطاب السياسي من باب الابتزاز لأوروبا، وتتعامل معه كورقة ضغط لجر الأوربيين لدعم التحركات العسكرية التركية شمال سوريا، والوقوف معهم في وجه روسيا.
هي جملة مواقف وسياسات تسوق شعبويا على أنها أخلاقية ومبدئية، أما سياسيا فإنها تستخدم السوريين المدنيين والمسلحين وقودا لتحقيق أهداف الرئيس أردوغان وأحلامه، وأحلام مجموعة من حوله يغلب عليها الفكر الطائفي، والرغبة في المغامرة.
لذلك لا ضير لديها في دفع أردوغان إلى المستنقع السوري ولو على حساب الدم التركي والسوري، وهو أصبح أسيرا لأهواء هذه المجموعة لا يستمع إلا لهم.
شعبويا أيضا يتم التسويق الدعائي لمصطلح يوصف فيه الجيش التركي بأنه "الجيش المحمدي"، الرئيس أردوغان نفسه أطلق هذا الوصف على جيشه لكسب تأييد المسلمين حول العالم.
أما في الحقائق فإن "الجيش المحمدي" يستنجد بالولايات المتحدة والناتو لدعم هذا الجيش في الشمال السوري. فكيف يكون جيشا محمديا يخوض حربه بدعم من الحلف الأطلسي وإدارة دونالد ترامب؟
هي صورة تعكس انفصام خطاب في اعتماد خطابين الأول شعبوي يداعب عواطف الحالمين بتركية العثمانية وريثة خلافة اسلامية، وآخرون ينظرون اليها على أنها حامية أهل السنة في العالم. والثاني سياسي مصلحي يجعل من الأطراف المحلية أوراق لعب لتحقيق أهداف سياسية تقوم على التناقضات بين روسيا والولايات المتحدة ويقترب من إيران للتعاون والتنسيق، بينما ينحو في الشق الشعبوي نحو وصفها بـ"المجوسية والرافضية والشيعية".
أما إرسال تركية للمقاتلين السوريين من إدلب إلى ليبيا بشكل علني للقتال الى جانب حكومة السراج، ما جعل هذه القوات التي يصفها الخطاب التركي ومن حوله بأنهم "ثوار حرية" يقاتلون ضد ظلم النظام ودفاعا عن مناطقهم، جعلها مجموعات مرتزقة تقاتل لحساب تركية في كل مكان، ولم يجد الخطاب التركي المسوق للرأي العام العربي ردا على هذا الأمر سوى تكرار السؤال التالي: لماذا تدعم الإمارات ومصر والسعودية خليفة حفتر؟ ولماذا ترسل روسيا مجموعات "فاغنر" إلى ليبيا؟
في الحقيقة هو خطاب يفتقر إلى الحقائق وتسلسل الأحداث في ليبيا. لأن دعم وتسليح وتشكيل وتأثير تركيا وقطر على المجموعات الليبية المسلحة التي تحيط بالسراج اليوم سابق لتشكيل جيش خليفة حفتر وسابق لحكومة الوفاق نفسها. بل وأكثر من ذلك أن إرسال المقاتلين بدأ من ليبيا بعد سقوط حكم القذافي إلى سوريا للقتال هناك، الفرق اليوم أنه كان غير معلن قبل عدة عوام واليوم يتم باتجاه معاكس من سوريا إلى ليبيا علنا .
وقد نجد ذات هذه اللازمة في الخطاب تجاه الوضع في سوريا، فيكرر ذاك الخطاب السؤال الدفاعي الذي يعتبرون انه مفحم. لماذا تتدخل روسيا وإيران؟ بينما حرام ذلك على تركيا؟ والحقيقة هو أن تدخل تركيا بالسلاح والعتاد وإدخال المقاتلين عبر حدودها والحملة المشتركة بينها وبين الولايات المتحدة وعدة دول لإسقاط النظام في سورية هي من فتحت باب التدخل لإيران وروسيا. عدا عن أن هذا الخطاب يناقض نفسه في الحالتين الليبية والسورية ففي الوقت الذي يعتمد فيه على دعوة حكومة الوفاق للتدخل لاصباغ شرعية على إنخراطه مباشرة في الحرب الليبية، يرفض ذات المنطق في سوريا بالنسبة لإيران وروسيا. مع أن في كلا الحالتين هناك حكومة معترف بها دوليا .
يبقى الخطاب تجاه فلسطين والقدس قائما في كل وقت على المستوى الشعبوي، بينما يسعى الرئيس أردوغان للحصول على مساعدة إدارة ترامب عرابة صفقة القرن في تحقيق أهدافه في الشمال السوري، وبتزامن قصفه للجيش السوري شمالا مع قصف "إسرائيل" لذات الجيش جنوبا.
إن لغة التهديد هي ما يغلب على سياسيات الرئيس أردوغان أقله خلال السنوات الثلاث الماضية، تهديد لكل من يختلف مع تركيا في السياسيات. تهديد سوريا ومصر والعراق وقبرص واليونان. تهديد أوروبا والإمارات والسعودية والجيش الليبي في الشرق والاكراد في الشرق السوري وحتى المعارضة التركية في الداخل ورفاق دربه ممن يخالفون سياساته .
الذرائع التركية حيال الملف السوري وربما ملفات في المنطقة غير مقنعة وتدفع إلى مواجهة تركيا ومنعها من الاستمرار في نهجها ووقفها عند حدها. وربما يحصل ذلك قريبا في ادلب .