من الانعكاسات غير المحسوبة للهدنة الجديدة التي أعلنها الرئيسان الروسي والتركي في الشمال السوري، بدء تراجع أزمة المحروقات التي كانت تعيشها مناطق سيطرة الجولاني منذ عدة أشهر، فمع توقف العمليات القتالية، سرعان ما انتعش قطاع النفط الذي تحتكره شركة “وتد للبتروليوم” جراء وصول شحنات من المازوت والبنزين والغاز من مناطق شرق الفرات التي تهيمن الولايات المتحدة على حقول النفط فيها. فهل تبيع واشنطن النفط إلى تنظيم ارهابي؟.
في خبرٍ مقتضب، ذكر المرصد السوري لحقوق الانسان، أمس الأول، أن الأسواق التي تخضع لسيطرة ما تسمى “هيئة تحرير الشام” والفصائل الارهابية في شمال غرب سوريا، شهدت انخفاضاً طفيفاً بأسعار المواد النفطية وذلك مع بدء دخول مادة المازوت “المكرر بدائياً” من مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) إلى الشمال السوري المحرر بعد انقطاع لمدة خمسة أشهر إبان عملية ماتسمى “نبع السلام”، مشيراً إلى استئناف ضخّ مادة المازوت عبر طريق أم جلود وسط عبور عشرات الشاحنات والصهاريج من ريف حلب إلى مناطق سيطرة “قسد” في غضون ساعات.
وعاشت منطقة إدلب لخفض التصعيد أزمة محروقات حادّة منذ شهر أيلول/سبتمبر الماضي مع تصاعد التهديدات التركية ضد “قوات سوريا الديمقراطية” والتي بلغت ذروتها مع انطلاق عملية “نبع السلام” في 9 تشرين الأول/اكتوبر، وهو ما أكّده في حينه محمد الأحمد ما يسمى وزير الاقتصاد والموارد في “حكومة الانقاذ” في إدلب، التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” الارهابية والمؤتمرة بأوامرها. وقال الأحمد آنذاك: “أزمة المحروقات سببها الرئيسي هو العمليات العسكرية شرق الفرات.. العمليات العسكرية شرق الفرات أدت إلى انقطاع الطريق بين مناطق قسد ومناطق درع الفرات الواصلة إلى منطقة إدلب”.
ويبدو أن عودة الهدوء العسكري سواء إلى شرق الفرات أو إلى منطقة إدلب لخفض التصعيد، قد أزال العوائق أمام استمرار تجارة النفط بين المنطقتين الخارجتين عن سيطرة الحكومة السورية.
وقد احتكرت “هيئة تحرير الشام” تجارة النفط منذ عام 2018 عندما قامت بتأسيس شركة “وتد للبتروليوم” وحصرت فيها كل ما يتعلّق بشراء وتوزيع المشتقات النفطية، حتى أصبحت الأخيرة ذراعاً اقتصادية هامة يستخدمها الجولاني في غايات شتّى منها: مراكمة ثروة تنظيمه وتأمين تمويل عملياته العسكرية واحتياجاته اللوجستية المختلفة؛ والضغط على خصومه في الداخل من خلال التلاعب بتوزيع مادتي المازوت والغاز على نحو يخلق أزمة في المناطق التي تحاول التمرد عليه كما حصل في أريحا ومعرة النعمان في أوقات سابقة.
وكان أوّل من استلم إدارة شركة وتد أبو عبدالرحمن الزربة واسمه الحقيقي مصطفى قديد، وهو من أبناء مدينة جيرود، ويعتبر من أبرز المقربين من أبي محمد الجولاني، ثم تولاها في ما بعد المغيرة البنشي، ويعرف أيضاً باسم أبو حمزة بنش، وكان سابقاً “أمير” مدينة إدلب قبل أن يقرر الجولاني نقله إلى منصب المسؤول الاقتصادي العام بعد فضيحة تسريب التسجيلات الصوتية التي دعا فيها إلى التخلص من الشرعيين في الهيئة.
ويعتقد على نطاق واسع أن ثمة علاقة مصاهرة بين الجولاني والبنشي.
وتدير شركة “وتد” صفقات تجارية تقدر قيمتها مئات آلاف الدولارات شهرياً، وفي بعض التقديرات يمكن أن يصل الرقم إلى مليون دولار شهرياً خاصةً في فصل الشتاء حيث يتزايد الطلب على استهلاك المحروقات. ويعتبر هذا الرقم جزءاً هاماً من ميزانية “هيئة تحرير الشام” المالية التي تصل في الشهر الواحد إلى ما يقارب 12 مليون دولار حسب ما ذكره أبو العبد أشداء القيادي السابق في الهيئة. وخلال سنتين من سيطرة “هيئة تحرير الشام” على منطقة إدلب وهيمنتها على المعابر التجارية بما فيها معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، وصلت ثروتها إلى ما يقارب نصف مليار دولار متفوقة بذلك على ثروة تنظيم “داعش” التي تقدر بحوالي أربعمئة مليون دولار.
وبرغم أن المنطلقات العقائدية لـ”هيئة تحرير الشام” تعتبر “قوات سوريا الديمقراطية” حركة علمانية مرتدة، وتنظر إلى الولايات المتحدة –حسب المعلن- على أنها دولة كافرة، إلا أن ذلك لم يشكل عائقاً يحول دون انتعاش التجارة بين هذه الأطراف.
وتقوم شركة “وتد” بشراء عدة أنواع من المحروقات أهمها: المحروقات الأوربية التي تدخل عبر معبر باب الهوى، وهي الأكثر طلباً من قبل المنشآت الصناعية والمخابز في إدلب، غير أن الحصول عليها يواجه مشاكل مستمرة بسبب الشروط الفنية للصهاريج وغيرها. وهناك المحروقات السورية التي تحصل عليها شركة “وتد” من مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”.
ومن الصعب القول أن الأخيرة تقوم بذلك من دون تنسيق مع القوات الأميركية التي تحتل حقول النفط كافة في شرق الفرات. بل أن القوات الأميركية عمدت في المرحلة الأخيرة إلى قصف قوافل الصهاريج التي كانت تنقل المحروقات بين مناطق “قسد” ومناطق سيطرة الجيش السوري في محاولة منها لتضييق الحصار على الحكومة السورية، لكن لم يسبق لها أن فعلت المثل مع القوافل المتجهة إلى مناطق “هيئة تحرير الشام”، وهو ما يدل على موافقتها على هذه التجارة وربما مباركتها لها.
وفي خطوة غير مسبوقة، قامت طائرات حربية سورية في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بقصف حراقات النفط البدائية في مناطق شمال حلب شملت مدينة الباب وجرابلس لوقف تجارة النفط غير الشرعية. وكانت هذه المرة الأولى التي تقدم فيها الطائرات السورية على استهداف مناطق واقعة تحت سيطرة الاحتلال التركي.
ولا يتوقف الأمر عند الصفقات غير الشرعية بين قسد و”هيئة تحرير الشام” التي تتعلق بشراء النفط المستخرج من الآبار السورية المحتلة من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحسب، بل ثمة شكوك بأن بعض النفط العراقي بدأ يدخل إلى سوريا متجهاً إلى منطقة إدلب.
وسبق لمحمد الأحمد أن أكد في تصريح صحفي في 3 كانون الأول/ديسمبر/ 2019 أن “وتد” اتفقت مع بعض الجهات لزيادة توريدات النفط إلى إدلب لسد حاجتها، مشيراً إلى أن “المحروقات العراقية ستدخل إلى الأسواق قريباً بما من شأنه أن يعوّض نسبياً عن المحروقات المكررة المفقودة حاليا في السوق” حسب قوله.