كلنا يتذكر حصار بلدة عين العرب (كوباني) شمال محافظة حلب على الحدود مع تركيا عام 2014 من قبل عصابات "داعش" والذي استمر اكثر من 6 اشهر، رغم كل مأساة الحصار والجرائم الوحشية التي ارتكبتها "داعش" ضد الاطفال والنساء والشيوخ في تلك لفترة، الا ان هناك أمراً لفت انظار العالم اجمع، وهذا الامر هو موقف تركيا من الحصار والذي اثار العديد من علامات السؤال حول دور تركيا في سوريا وكذلك علاقة تركيا مع الجماعات التكفيرية الارهابية.
حينها كان المقاتلون الاكراد في عين العرب (كوباني) يتعرضون لضغطين في آن واحد ضد هجمات عصابات "داعش" وضغط هجمات الجيش التركي والجماعات المسلحة التابعة له، ففي جنوب وغرب وشرق البلدة كان مسلحو "داعش" يحاولون التسلل الى داخلها، بينما في الجهة الشمالية اغلقت تركيا الحدود مع البلدة، بل تم تسجيل عمليات قصف تعرضت لها وحدات القوات الكردية في المدينة، وكانت انقرة تبرر حينها موقفها بانها لا تفرق بين ارهاب "داعش" وارهاب الاكراد!.
من المسامحة وصف التورط العسكري التركي في سوريا على انه "انتهاك" للسيادة السورية، فتركيا منذ الاول التي تم فيه فرض الحرب على سوريا من قبل التحالف الغربي الصهيوني العربي الرجعي ، كانت متورطة في العدوان على سوريا من راسها الى اخمص قدميها، فاكثر من 90 بالمائة من الارهابيين والتكفيريين الذي دخلوا الى سوريا دخلوا عبر الاراضي التركية ، واعترافات المسلحين تؤكد هذه الحقيقية، ولا نبالغ ان قلنا لولا الدور التركي لما وصلت الاوضاع في سوريا الى ما وصلت اليه اليوم.
التدخل العسكري التركي في سوريا كان يتم تبريره من قبل السلطات التركية مرة بوجود "الخطر الكردي" ، ومرة بدوافع طائفية كنصرة اهل السنة، ومرة بدوافع عنصرية ك"نصرة التركمان" الذين ينحدرون من اصول تركية ، ومرة بالحرص على اللاجئين السوريين، ولكل كل تلك التبريرات كانت لتبرير هدف واحد وهو اقتطاع اراض من سوريا ترى فيها تركيا الاردوغانية بانها ارض "سُلبت" من الدول العثمانية ويجب استرجاعها الى حضن "الوطن الام".
بعض الدول ومنها روسيا وايران كانت تعتقد ان بالامكان الزام تركيا باتفاقيات دولية يمكن التوصل من خلالها الى حلول للازمة السورية ولو تدريجيا ، وهو ما حصل في مفاوضات "استانة" و "سوتشي"، ولكن للاسف الشديد لم تلتزم بالاتفاقيات التي تمخضت عنها المفاوضات في استانة وسوتشي الخاصة بمناطق خفض التصعيد فحسب، بل انها داست على حتى القوانين والاعراف الدولية، عندما شنت عدوانها الصارخ على سوريا تحت عنوان "نبع الربيع" ، الامر الذي وضع المنطقة برمتها على حافة الهاوية.
في البداية كانت تركيا تعتقد ان اهدافها في سوريا ستتحقق عبر دعم وتسليح الجماعات التكفيرية والقومية، ودون الحاجة لتدخلها العسكري المباشر، ولكن التطورات الميدانية لم تأت كما تشتهي تركيا، حيث انقلب ميزان الميدان لصالح الجيش السوري وحلفائه وكذلك لصالح المقاتلين الاكراد السوريين، في مقابل هزيمة "داعش" والقاعدة والجماعات التكفيرية الذين انكفأوا في ادلب، الامر الذي دفع تركيا ان تتدخل عسكريا وبشكل مباشر لفرض واقع في سوريا عجزت العصابات التكفيرية عن فرضه.
لا يمكن وضع تاريخ محدد للعدوان التركي العسكري المباشر على سوريا، فالعدوان كان مشهودا منذ اليوم الاول، ولكن وفقا للرواية "الرسمية" التركية ، فانه بدأ بعملية "درع الفرات" عام 2016 ، وعملية "غصن الزيتون" عام 2018 ، و عملية "نبع السلام" عام 2019، وقبلها كانت عملية اسقاط طائرة السوخوي الروسية عام 2015 دعما للارهابيين التكفيريين من مقاتلي القاعدة.
هذا الغزو التركي الصريح جاء بضوء اخضر امريكا اكثر صراحة ووضوحا، حيث ارتكبت الجماعات التكفيرية المسلحة التي تأتمر بأوامر الجيش التركي فظاعات لا تعد ولا تحصى ضد المدنيين السوريين العزل، اعلنت منظمة العفو الدولية بأنها جمعت أدلة تشير إلى أن القوات التركية والمجموعات المسلحة المدعومة منها قد "أبدت تجاهلا مخزيا للحياة المدنية، وارتكبت انتهاكات جسيمة وجرائم حرب، بما في ذلك القتل المتعمّد والهجمات غير القانونية التي أدّت لقتل وجرح المدنيين".""
منذ سيطرة تركيا على مساحات وسعة من شمال سوريا،بدات على الفور حملة تتريك مكثفة فقد غيرت اغلب اسماء المدن والبلدات والقرى الى اسماء "عثمانية" كما فرضت العملة التركية على الاهالي، كما فرضت نظام تعليمي تركي في المدارس ورفع الاعلام التركية على جميع المؤسسات والمدارس.
الأمين العام لمنظمة العفو الدولية كومي نايدو كشف عن ان "الهجوم العسكري التركي على الشمال ادى الى تدمير حياة المدنيين السوريين الذين أجبروا مرة أخرى على الفرار من ديارهم، والعيش في خوف دائم من القصف العشوائي وعمليات الاختطاف، وأعمال القتل الميداني"، وحمل نايدو تركيا مسؤولة عما تقوم به الجماعات المسلحة السورية التي تدعمها وتسلحها وتوجهها.
المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يحظى بمصداقية دولية، أعد تقريرا موسعا حول سجون فرقة "السلطان مراد"، الجماعة التركمانية المسلحة الموالية لتركيا، في شمال سوريا والانتهاكات الفظيعة التي ترتكبها هذه الفرقة تحت اشراف تركي مباشر بحق الشعب السوري.
انتهاكات تركيا لم تقتصر على الانسان السوري بل تجاوزت الى ثرواته ايضا فبعد تهب كل مصانع حلب شحن ما فيها الى تركيا، مدت تركيا الى النفط السوري بالتعاون مع اامريكا والجماعات التكفيرية وعلى راسها "داعش"،حيث تم سرقة وتهريب النفط السوري عبر الحدود التركية، حيث تمر ناقلات النفط بالأراضى التركية من دون عوائق وتذهب إلى موانئ لنقل النفط عبر السفن إلى بلد ثالث لتكريره، وان تركيا هي المستهلك الرئيسى للنفط المسروق، وفقا لوزارة الدفع الروسية.
اطماع تركيا لا تنحصر بالارضي السورية فقط بل تتجاوزها الى الاراضي العراقية يضا، وهو ما كشف عنها الرئيس التركي اردوغان في تشرين الاول / اكتوبر عام 2016، عندما دعا علانية الى تعديل اتفاقية "لوزان" التي وقعتها تركيا 1923 والتى على ضوئها تم رسم حدود تركيا الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، حيث يعتبر اردوغان ان الاتفاقية كانت مجحفة وان تركيا وقعتها في حالة ضعف حيث تم "اقتطاع مساحات واسعة من الاراضي التركية" ويعني الموصل وضمها الى العراق.
العالم اليوم، خاصة حلفاء تركيا في الناتو، باتوا على يقين ان تعامل اردوغان مع سوريا لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالوضع الانساني للاجئين السوريين، ولا بالخوف من الخطر الكردي، ولا حتى بدوافع طائفية كما يحلو لاردوغان ان يستخدمها، بل له علاقة مباشرة باطماع تاريخية بالارضي السورية والعراقية، اعتقد اردوغان ان بامكانه تحقيقها و سوريا و العراق يمران باوضاع استثنائية قد لا تتكرر مستقبلا.