كل شيء تغير هذا العام، حتى رمضان لم يعد على السوريين كما في كل عام حتى في سنوات الحرب العجاف التي بعّدت بين السوريين مكانياً بعد أن هجّرت هذا وذاك وقطعت الأوصال بين الجيران والتي كانت يوماً ما أقوى من رابط الدم.
في مدينة اللاذقية القديمة، يفتقد المار بين الأزقة العتيقة على عجل قبل أن يحين موعد الافطار، لرؤية “سكبة رمضان” ذلك المشهد الرمضاني الذي استنسخته الدراما منذ زمن وحولته إلى مشهد أساسي ترتكز عليه وهي تتحدث عن رمضان وعاداته.
“سكبة رمضان” التي كانت تدور بمحبة بين بيوت الحارة التي تفوح منها رائحة ما لذ وطاب من الطعام، لتنزل ضيفاً غير منتظر على مائدة الجيران وتحدث تنوعاً في الأطباق التي جاد بها رمضان الكريم، لم تعد اليوم موجودة، وإن وجدت فهي أمر نادر.
لم تكن السكبة للتحبب بين الجيران واستعراض من طبخها أطيب بين الجارات، بقدر ما كانت معانيها أعمق لدى من كان يحرص على الحفاظ عليها، ففي شهر الخير كان لابد للخير أن يعم على الجميع ويوحّد بين موائد الغني والفقير فلا جائع ولا محروم.
سكبة الغني حيث اللحوم عمادها و”السقسقة” لوازمها كانت سكبة خمس نجوم تدور على معظم بيوت الحارة لتفرح بها مائدة الفقير التي بدورها تجود بما عليها من الطبق النباتي رغماً عنه، فتزور مائدة ميسوري الحال لتقول: “نحن موجودون وبالرحمة متواصلون”.
الأسباب كثيرة وراء اندثار هذه العادة الرمضانية التي لا تقتصر على اللاذقية وإنما تجمع بين جميع المحافظات السورية، لتتصدر المشهد الرمضاني إلى جانب الناعم والعرقسوس والتمر الهندي والمسحراتي والحكواتي.
أبو محمد، يعيش في مدينة اللاذقية القديمة يقول لتلفزيون الخبر: “كانت عادة أن تسكب أمي للجيران من الطبق الرئيسي الذي أعدته للافطار شيء أساسي ويومي لا تستغني عنه ابداً، وكانت مهمتي هي دق الباب على الجيران قبل عشر دقائق وايصال السكبة لهم”.
وأضاف ابو محمد: “كنت كلما أوصلت سكبة لبيت أحد الجيران أعود محملاً بسكبة من عندهم، ليحين موعد الافطار وقد امتلأت المائدة بشتى أنواع الطعام الشهي”.
“سقى الله هديك الأيام”، بحنين لا يخلو من وجع رحيل تلك الأيام تروي أم ياسين “كنا نتفنن بطهو الطعام حتى يكون شهياً وله طعمة مميزة حتى ينال استحسان الجيران الذين كنا نتبادل معهم السكبات”.
وأضافت أم ياسين: “الهدف من السكبة ليس تبادل الطعام بين الجيران بالمعنى الظاهري لها، وإنما أن نتشارك حتى الأكل فمن كان فقيراً كان يتذوق اللحم ممن كان حاله ميسوراً”، وتابعت: “يعني حتى يحس الغني بالفقير”.
وأردفت: “لكنّا كبرنا، منّا من توفي ومنا من انتقل من منزله ومنّا من ودع تلك العادات بفعل ضيق الحال، ففي الماضي كانت ربة المنزل تطبخ بحلة كبيرة تكفي لحارة بأكملها، أما اليوم فربة البيت تنزل للسوق وتشتري بالحبة والحبتين ويادوب تكفي الطبخة أهل البيت نفسه”.
أمجد موظف ورب عائلة شاطر أم ياسين الرأي بقوله: “أنا يادوب دبر حالي ومشي شهر رمضان بدون أن استدين المال، فكيف لنا أن نعيد زمان السكبة التي باتت تكلفته باهظة”، مضيفاً: “الحال داقر والأمور المعيشية صعبة علي وعلى جاري”.
وأضاف أمجد: “الحال المعيشية الصعبة لم تقضي فقط على السكبة بل أيضاً قضت بنسبة ٩٠ بالمية على عزائم رمضان التي اقتصرت على من استطاع إليها سبيلاً” ، وتابع: “الله يفرج أحسن شي”.
هلّ رمضان هذا العام صعباً على السوريين وقد اجتمعت أمور كثيرة على ذلك فمن غلاء المعيشة إلى التوجس من كورونا إلى اجراءات الحظر، في الوقت الذي يضع فيه السوريون يدهم على صدرهم ويحبسون أنفاسهم خوفاً من ما يحمله هذا العام في جعبته أيضاً من مفاجآت.