كما يحمل جسد المحارب آثار الطعنات والجراح، تظهر الإبادة الأرمنية التي ارتكبها العثمانيون، كندب دائم في وجه الشرق، ووصمة في تاريخها لم تستطع ألاعيب السياسة إخفاءه او التغطية عليه، فيظهر فجّاً واضحاً فاضحاً، ليحكي قصة شعب لاحقه الموت على طرقات البحث عن الحياة.
بين عامي 1915 و1917، قتل وشرّد مئات آلاف الأرمن الذين كانوا يعيشون في أراضي السلطنة العثمانية، في مجازر مروعة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
وتذكر مصادر تاريخية متعددة، أن الجيش التركي اجتاح مملكة أرمينيا لأول مرة في القرن الحادي عشر، وفي القرن السادس عشر أصبح معظم أرض أرمينيا التاريخية جزءاً من السلطنة العثمانية، وبقيت أرمينيا تحت حكمها حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
لم تكن المجزرة التي حدثت في بداية القرن العشرين، أولى مجازر الأتراك بحق الأرمن، فبين عامي 1894 و1896، ارتكب العثمانيون عدة مجازر راح ضحيتها حوالى 80 ألف، وعرفت باسم المجازر الحميدية (نسبة إلى السلطان عبد الحميد الثاني).
وتبعت تلك المجازر مظاهرة للأرمن في إسطنبول كان هدفها تسليم عريضة إلى الحكومة التركية، أعقب ذلك عشرة أيام من الإرهاب في اسطنبول ومدن تركية أخرى أسفر عن موت ما يفوق 1000 أرمني.
ومع تولي الأتراك الشباب عام 1908 زمام الحكم في الدولة التركية، استبشر الأرمن خيراً من الخطوات التي اتخذوها والرامية إلى جعل سياستهم أكثر ليبيرالية وتسامحاً.
وأعلن حزب “الاتحاد والترقي” المساواة في الحقوق بين الأرمن والأتراك والقوميات الأخرى، الأمر الذي أثار أصداء إيجابية في أوساط المجتمع الدولي والأرمن على حد سواء.
وأعقب ذلك مجزرة كيليكية، التي وقعت بولايتي حلب وأضنة راح ضحيتها ما يقارب 30 ألف أرمنياً، وتم تدمير وحرق عشرات القرى والبلدات الأرمنية، التي خيبت آمال الأرمن ودفعتهم لتنظيم مجموعات الدفاع الذاتي، التي تمكنت من صد هجمات الأتراك، ما حال دون وقوع مجزرة أكبر.
غالبًا ما تُرتكب الأعمال الوحشية وعمليات الإبادة الجماعية في سياق الحرب، وترتبط مذبحة الأرمن ارتباطاً وثيقاً بأحداث الحرب العالمية الأولى حيث شاركت الإمبراطورية العثمانية رسمياً في الحرب في تشرين 1914 إلى جانب دول المحور.
وفي 24 نيسان 1915، أمر الحكام الأتراك الشباب، وبالأخص الزعماء الثلاثة طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا، بجمع حوالي 600 أرمنياً في إسطنبول، وكانوا من نخبة المجتمع الأرمني فمنهم القادة والمثقفون والكتّاب ورجال الدين، وتم اعدامهم في ساحات المدينة.
وفي منتصف العام 1915، أصدرت السلطنة العثمانية قراراً قضى بترحيل أرمن الأناضول وكيليكيا من أراضيها لأنهم باتوا عناصر “مشكوكاً في ولائها”، وصدر قرار بمصادرة ممتلكاتهم.
وبحجة منعهم من الانضمام إلى الجيش الروسي الزاحف إلى السلطنة، قُرر ترحيلهم جنوباً ناحية بادية الشام، فنظمت قوافل للمرحلين وأمرت جميع الأسر الأرمنية بالانضمام إليها وترك أراضي السلطنة.
وهكذا رحّل الأرمن في “مسيرات موت”، كانت السلطات تشجع الأتراك والأكراد على مهاجمة السائرين فيها وسرقة ممتلكاتهم، كما أحرق العديد من الأرمن أحياء أو أعدموا أو قتلوا أو ماتوا بسبب مرض التيفوئيد أو العطش أو الجوع.
وحدثت آلاف حالات الاعتداء الجنسي على النساء، وتم خطف بعضهن وفرضت العبودية عليهنّ، كما تم إبعاد عشرات الآلاف من الأطفال الأرمن قسرًا عن أسرهم وتحويلهم إلى الإسلام.
كشفت الوثائق العثمانية والأرمنية والأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية والنمساوية ذلك الوقت أن قيادة جمعية الاتحاد والترقي استهدفت عمدًا السكان الأرمن في الأناضول، وأن مصادرة ممتلكاتهم وإحصاؤها كانت بزعم ثراء الأرمن، واحتياج العثمانيين إلى تمويل الحرب.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، اعترفت تركيا بجرائم الحرب التي ارتكبتها، وأقرت بالإبادة الأرمنية محملةً المسؤولية لزعماء حزب الاتحاد والترقي الذي كان يسيطر على الحكومة، ولكن منذ العام 1921، صار الموقف الرسمي التركي ينكر إبادة الأرمن وهو موقف يستمر إلى الوقت الحاضر.
ترفض السلطات التركية الاعتراف بالمجزرة الأرمنية، وتجرّم المادة 305 من قانون العقوبات التركي كل من يعترف بها، وتعمل السلطات على محو تلك الذكرى من أذهان مواطنيها.
ففي عام 2016، حكومة أردوغان إحياء ذكرى معركة “غاليبولي” (دارت بين القوات العثمانية والحلفاء عند مضيق الدردنيل)، في يوم ذكرى المذبحة، في محاولة لاستبدال مشاعر تأنيب الضمير بمشاعر الفخر القومي لكون المعركة المذكورة أسست لنشأة الجمهورية التركية الحديثة.
يقدر عدد الأرمن في تركيا اليوم بحوالي 60 ألفاً، لكن عددهم أكثر من ذلك، فخلال الحرب العالمية الأولى، اعتنق عشرات الآلاف منهم الإسلام للهرب من الموت وبقيت هويتهم دفينة.
ويشكل موضوع الاعتراف الدولي بالإبادة الأرمنية هاجساً لدى الحكومة التركية، والتي تهدد دائماً بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على الدول التي تعترف بالمذبحة.
وإضافة إلى محاولات التبرير والأنكار، حاول الأتراك تطهير الأرشيف العثماني من أية دلائل على الإبادة حيث يقول المؤرخ والأستاذ الجامعي هليل بركتاي، مدير لجنة دراسات سقوط الدولة العثمانية أنه “كانت هناك محاولتان جديّتان من أجل تطهير الأرشيف العثماني من أي وثائق تجريمية في القضية الأرمنية”.
اعتبارا من عام 2015 ، قامت حكومات وبرلمانات من 29 بلداً، بما في ذلك روسيا البرازيل فرنسا ألمانيا وإيطاليا وكندا، وكذلك 44 ولاية من الولايات المتحدة، إلى جانب الأمم المتحدة، بأن الأحداث التي حصلت للأرمن كانت إبادة جماعية.
وفي عام 2016 صادق البرلمان الألماني على قانون يقر بأن مقتل مليون ونصف أرمني على يد القوات العثمانية عام 1915، كان إبادة جماعية، الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقات الألمانية التركية.
وانضمت سوريا إلى الدول التي اعترفت رسمياً بارتكاب الأتراك جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الأرمني، في 13 شباط من عام 2020 الجاري، حيث صوت مجلس الشعب السوري بالإجماع على قرار “يدين ويقر الإبادة الجماعية للأرمن في الدولة العثمانية”.
ولم يعترف القانون الدولي بجريمة الإبادة الجماعية إلا عام 1948، بفضل اتفاقية الأمم المتحدة التي عددت جملة من الأفعال تشكل جرائم “إبادة جماعية” إذا ارتكبت “بنية القضاء كليا أو جزئيا على مجموعة قومية أو أثنية وعرقية أو دينية”، وظهر مصطلح الإبادة الجماعية لوصف أحداث الإبادة الأرمنية وهي من جرائم الإبادة الجماعية الأولى في التاريخ الحديث.