لم يعد أمام كرد سوريا إلا خيار واحد، وهو إثبات وطنيتهم، بعيداً عن تأثيرات القيادات الكردية التركية التي تعتقد أنها تستطيع أن تجعل شرق الفرات ساحة لتصفية حساباتها مع تركيا، ولو كان ذلك على حساب الكرد عموماً في سوريا.
بعد أن سيطرت القوات التركية، ومعها حوالى 5 آلاف من مسلّحي ما يسمى الجيش الوطني، الذراع السورية للجيش التركي، على حوالى 110 كم من الشريط الحدودي السوري مع تركيا بين رأس العين وتل أبيض، وبعمق يمتد إلى 10 كيلومتر تقريباَ، تسعى أنقرة إلى إحكام سيطرتها على المنطقة، لتجعل منها “صمام الأمان” لمشاكلها الأمنية المستقبلية مع الكرد.
وبعد 6 أشهر من اجتياح الجيش التركي للمنطقة، بموافقة روسية أميركية مشتركة، في 9 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وهو اليوم الذي غادر فيه زعيم حزب العمال الكردستاني التركي عبدالله أوجلان سوريا قبل 20 عاماً، يخيّم الهدوء على المنطقة التي ما زالت تشهد مناوشات متقطعة في ظل رضا جماعي على الوضع الحالي، بعد أن فرض فيروس كورونا نفسه على الجميع، فالدوريات التركية- الروسية المشتركة تقوم بمهامها على طول الحدود السورية- التركية بغياب الدوريات الأميركية، بعد أن قال الرئيس ترامب إن ما يهمه هو النفط السوري فقط.
ولم تكن كلّ هذه المعطيات كافية بالنّسبة إلى وحدات حماية الشعب الكردية، لتستخلص ما يكفي من الدروس من كل ما عاشته في المنطقة وخارجها، فعلى الرغم من التصريحات المتتالية للمسؤولين في الغرب، وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذين عبروا جميعاً عن تأييدهم وتضامنهم ودعمهم لها، يعرف الجميع أن أياً من هذه الدول لا ولن تقف في وجه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إذا قرر التوغل في المنطقة.
كما يعرف الجميع أن التواجد العسكري الأميركي بحجمه الحالي، وهو حوالى ألف عسكري، لن يكون كافياً لمنع الجيش التركي من القيام بأي عمل عسكري، وخصوصاً إذا حظي برضا روسي وتجاهل سوري، ما دامت قيادات وحدات حماية الشعب تتهرب من الاتفاق مع دمشق ضد “العدو المشترك” تركيا.
ويبدو واضحاً أن الوحدات المذكورة تعقد آمالاً كبيرة على دعم واشنطن، من دون أن تتذكر أن الأخيرة تخلَّت دائماً عن الكرد، وباعتهم لأعدائها في الكثير من الحالات، إن كان في العراق أو إيران أو تركيا، فقد قامت المخابرات الأميركية، بالتنسيق مع الموساد الإسرائيلي، باختطاف عبدالله أوجلان من كينيا، وتسليمه للمخابرات التركية في 14 شباط/فبراير 1999، وهو ما زال في السجن منذ ذلك التاريخ.
وتخلَّت أميركا عن كرد العراق في عهد الملا مصطفي البرزاني ونجله مسعود البرزاني، بعد أن دعمتهما، أو هكذا بدا، في العديد من الحالات التي شكلت مصلحة لها فقط.
والسؤال في هذه الحالة: إلى متى سيبقى الحال في شرق الفرات على ما هو عليه الآن؟ وهو ليس لصالح الكرد أبداً بسبب الوضع الأمني والاقتصادي والمالي والتجاري السيئ، وتناقضات مجمل الحسابات الداخلية والإقليمية والدولية الخاصة بالمنطقة. فالكرد كانوا، وما زالوا، ورقة مساومات رابحة بالنسبة إلى القوى الاستعمارية والإمبريالية منذ ما لا يقل عن 100 عام، ولم يحققوا أياً من أهدافهم الاستراتيجية، بعد أن ضحوا بالكثير من أجل هذه الأهداف، وأهمها الاستقلال، وهو مرفوض دولياً، ما دامت العداءات والحروب القومية في المربع السوري العراقي الإيراني والتركي كانت، وما زالت، وستبقى في خدمة الحسابات الاستعمارية منذ اتفاقية سيفر التي يتغنى بها الكرد ويصفق لها الغرب.
ولم يستخلص كرد سوريا الدروس الكافية من هذه الذكريات، لا بسبب تعقيدات المعادلات الإقليمية والدولية فحسب، بل بسبب وضعهم الداخلي أيضاً، فالكثير من كرد سوريا والمنطقة لا يخفون عدم ارتياحهم من سيطرة القيادات الكردية التركية على قرار حزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني ووحدات حماية الشعب التي تعتبر نفسها الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، العدو الاستراتيجي للدولة التركية.
وعلى الرغم من مساعي المصالحة التي بدأها الرئيس إردوغان مع هذه القيادات في تموز/يوليو 2011، فالحظ لم يحالف الطرفين للتوصل إلى صيغة نهائية تحسم هذه العلاقة، بعد أن رفضت القيادات المذكورة طلباً من أنقرة للتمرد على الدولة السورية.
وكان هذا الرفض كافياً لإعلان إردوغان الحرب السياسية والنفسية على كرد سوريا، لينتهي الأمر بهذا الإعلان في توغل الجيش التركي شرق الفرات.
وكان الكرد قد استنجدوا بأميركا بعد العام 2015، وهم اعتقدوا أن واشنطن ستحميهم من أي خطر، ما دام الطرف الآخر من المعادلة، أي سوريا، مدعوماً من قوة دولية، وهي روسيا حليفة إيران، المناهضة الأكبر لسياسات واشنطن الشيطانية.
ويعرف الجميع أن واشنطن استخدمت، ولا تزال، كرد سوريا كسلاح فعال في حساباتها الخاصة في العراق ضد فصائل المقاومة.
وبغياب الاهتمام الحالي بالمنطقة، تعتقد قيادات الاتحاد الديموقراطي الكردستاني أن تكتيكاتها الآنية ستكون كافية لحماية مكاسبها ضد الأخطار المستقبلية كافة، فهي تعتقد أنها تستطيع من خلال السماح لبعض القوات السورية بدخول المنطقة بصلاحيات محدودة، ومعها قوات روسية، أن تمنع الجيش التركي من اجتياح المنطقة بأكملها.
كما تعتقد أن رهانها على بقاء القوات الأميركية، بالتنسيق والتعاون مع الأطراف العربية في قوات سوريا الديموقراطية، سيساعدها على موازنة التواجد السوري/الروسي، سواء كان مؤقتاً أو دائماً، وفق التطورات المستقبلية، من دون أن يخطر على بال هذه القيادات أن التكتيكات الخاطئة لا يمكنها أن تساهم في تحقيق أي من الأهداف الاستراتيجية.
كما أن المكاسب الآنية لفئات محدودة كانت دائماً على حساب الفئات الأوسع، وهو ما أثبتته تجارب الشعب الكردي في المنطقة، كما أثبتت أن الخاسر دائماً هو الطرف الأضعف، وهو في هذه الحالة الكرد، الذين يشكلون أقليات في دول مهمة بالنسبة إلى الجميع، بما فيهم كيان الاحتلال الاسرائيلي، ويعرف الجميع اهتماماتها بالمنطقة منذ بدايات الخمسينيات من القرن الماضي .
ويفسر ذلك واقع الكرد في تركيا والعراق. أما في سوريا فلم تحصل أي حروب دموية بين الكرد والدولة، خلافاً للوضع في الدول الأخرى التي كان كردها، وما زالوا، على خلافات تارة سياسية وأخرى عسكرية مع هذه الدول، وفي جميع مراحل التاريخ الكردي.
ولم يعد أمام كرد سوريا إلا خيار واحد، وهو إثبات وطنيتهم، بعيداً عن تأثيرات القيادات الكردية التركية التي تعتقد أنها تستطيع أن تجعل شرق الفرات ساحة لتصفية حساباتها مع تركيا، ولو كان ذلك على حساب الكرد عموماً في سوريا.
وأياً كانت خيانات البعض من العشائر والقوى العربية داخل ما يسمى قوات سوريا الديموقراطية، فقد أثبت تاريخ المنطقة الطويل والقريب أن لا حل لمشاكل الكرد إلا عبر الحوار الإيجابي الأخوي والوطني، بعيداً من استفزازات العدو المشترك، وهي كثيرة .
فلو كان القائد الكردي جلال الطالباني على قيد الحياة، لكان قد كرر هذه التوصية. ومن دون الالتزام بها، لبقي الكرد عشرات السنين، وربما مئات السنين، على وضعهم الحالي، حتى إن تغيرت أطراف المطرقة والسندان، فهما سيبقيان كبقاء اسم الحداد كاوا، بطل الأسطورة الكردية القديمة التي ترتبط بعيد النوروز؛ رأس السنة الكردية التي يحتفل بها الكرد سنوياً في 21 آذار/مارس من كل عام، فقد كان كاوا رمزاً للحرية والانعتاق من العبودية والثورة على الظلم والطغيان، كما كان رمزاً للذكاء والعقلانية والحنكة السياسية لمن يدرك ذلك.
لقد آن الأوان بالنسبة إلى الكرد، شرق الفرات، أن يقرروا بأسرع ما يمكن، وبعيداً من الحسابات الرخيصة التي أثبتت عدم جدواها، الصفات التي سيتمسكون بها حتى يصنعوا لأنفسهم ولباقي كرد المنطقة، مستقبلاً باهراً يحقق لهم كل أمنياتهم عبر الحوار السلمي، لا لغة السلاح التي ليس في مفرداتها إلا مصالح الأعداء .
كما آن الأوان لدول المنطقة معاً، أو كل منها على حدة، لأن تفكر في صيغ جديدة للحوار الصابر، ومن ثم العمل الجاد من أجل المعالجة الإنسانية لهذه المشكلة، وسوريا هي الأقرب والأمثل للتعامل معها لأسباب عديدة، أهمها أنها لم تقاتل كردها أبداً “وكانت دائماً صديقاً للشعب الكردي”، والقول هنا للزعيم الكردي الراحل صديقي العزيز الرئيس جلال الطالباني.