طائفة الدبور

 كاتب المقال: د. اسكندر مقدسي 


يحكى قديما عن واد ضائع في الجغرافية التاريخية يقال له وادي البنفسج، واد كبير تحيط به جبال الجدار من كل جانب، فيه نهر ينبع من الجبال ويقطعه من أوله إلى آخره يسمى نهر الحد، حدث منذ آلاف السنين في هذا الوادي صراع على مورد المياه ألا وهو نهر الحد والذي يغذي كل قرى وادي البنفسج بالمياه العذبة، الصراع كان ظاهريا على الماء وعلى التحكم بالماء، لكنه في الجوهر صراع على السلطة بين عائلتين كبيرتين، عائلة الدبور بزعامة كامل الدبور، وعائلة أبو تلة وكبيرها العجوز الغني والخرف جنكيز أبو تلة، كان كامل الدبور أدهى رجل في ذلك الزمان، ينافس بدهائه ثروة جنكيز كاملة وعائلته وأتباعه، وبعد أن تحول وتتطور الموضوع من منافسة بين أولاد العمومة على الزعامة إلى حرب مسلحة، يقتل فيها كل من ثقف الآخر للدرجة التي اصطبغ فيها نهر الحد باللون الأحمر ولم يعد صالحا للشرب، ولم ينتصر أحدهم على الآخر واستمرت هذه الحرب لأيام وشهور وسنوات حتى بدأت الناس في الوادي تموت عطشا وجوعا وفقرا، يتسلح أبو تلة بنقوده التي يشتري بها السيوف والجنود، ويتسلح الدبور بدهائه الذي مكنه من تأسيس رابطة قوية تعتمد في باطنها ديانة جديدة غير عبادة الشمس، ألا وهي اقناع الناس ببعض الحيل والجمل بأنه المشير والكبير، مرسل من إله غير مرئي ولا يمكن أن تدركه حواس الكيان البشري، بعلامة أنه سيحدد من المنتصر في الحرب الدموية ومتى، ووعود لمريديه بأن من يتبعه سينتقل بعد موته إلى وادي النبراس، وهو المكان الذي فيه كل شيء مباح مقابل لا شيء، وبدون تعب.

بدأت شعبية الدبور تتزايد بشكل كبير حتى بين مناهضيه من آل أبو تلة ومناصرينهم كآل الحواريد، وبدأت الناس تقصده وهمها شيء واحد، هو موعد انتهاء الحرب، وبعد أن حصد شعبية كبيرة جدا وبدأت الكفة ترجح لصالحه يخرج الدبور عليهم ويخبرهم في أحد الأيام وفي جمع غفير ضم أناس شتى من مختلف أصقاع وادي البنفسج أن موعد إنتهاء الحرب هو صباح أول يوم ماطر، والمنتصر في الحرب هو أول من يشرب من النهر في ذلك اليوم من بين زعيمي القبيلتين، آلا وهما جنكيز وهو.

بدأ الناس يراقبون السماء ويلعنون كل يوم تشرق فيه الشمس، يلعنون الشمس نفسها التي كانت إلههم على مدى آلاف السنين، وفترت همتهم لخوض الحرب، وأضحوا يرون بعضهم وأعدائهم يجولون في الوادي ولا يحركون ساكنا، وبقي جنكيز بو تلة يحرض أتباعه على الحرب والعودة إلى حمل السلاح والكف عن مراقبة السماء فقط، وخطب فيهم عشرين مرة، وثلاثين مرة، و وزع عليهم الكثير من المال ولكن لا حياة لمن تنادي، فالحرب قد حصدت الغالي والنفيس ولم يعد يهم المال أحدا ولا الزعامة أحدا، سوى جنكيز نفسه، هذا ما كان واضحا طبعا حينها.

بشرت السماء بالغيوم في فجر أحد الأيام، غيوم سوداء ورمادية في لوحة جميلة، رائحة المطر تسبق المطر، والقطط والكلاب تختبىء تحت الأشجار وبين الصخور الكبيرة، عمت الفرحة الناس جميعا وأيقظ بعضهم الأخر لمشاهدة تحقق النبوءة الأولى من نبوءات كامل الدبور، ألا وهو نزول المطر معلنا انتهاء الحرب، مع أن الحرب فعليا منتهية فمنذ أن خرج الدبور وخاطب الناس بانتظار المطر منذ شهرين، لم يقتل أحد الآخر في وادي البنفسج، لكن ولأول مرة يفرح الناس بغياب الشمس، فالسماء الممتلئة بالغيوم كانت نذير شؤم لدى البنفسجيين القدماء ولديهم نفسهم، لكنها الآن منظر ديني جديد وتاريخي يفرح له العامة.

خرج جنكيز أبو تلة محاطا بأولاده السبعة عشر ونسائهم وأولاد عمومتهم إلى منطقة يقال لها "المهد"، وهي واحة تتفرع عن بداية النهر وتتغذى منه، تحيط بها أشجار النخيل في منظر جميل وخرج جمع غفير من شتى أصقاع الوادي لرؤية من سيشرب من النهر أولا، وأصبح الجميع هناك و بانتظار الرأس الكبيرة الأخرى في الوادي، ألا وهو الكاهن الكبير الجديد و المشير كامل الدبور، بالطبع جنكيز لم يؤمن يما يتكلم به الدبور، لكنه كان مصمما على أحد أمرين، إما قتل كامل الدبور ومناصريه وإنهاء الحرب بالقوة وتحقيق النصر المؤزر، أو شرب ماء النهر قبله والذي سيقتل الدبور أيضا وينهي الحرب، لكنه سيجعل الدبور نبيا فعلا لكن لا يهم بما أنه سوف يموت.

تأخر كامل الدبور في القدوم، حتى أتى أولاده وزوجاتهم وأتباعهم دون وجود كامل نفسه.

صعق الناس من عدم وجود كامل، خيبة أمل كبيرة واضحة جلية على وجوه غالبية سكان الوادي المنتظرين قرب الواحة، حتى على وجوه غالبية أتباع جنكيز، ويبدأ القال والقيل ليقطع ذلك كله سؤال ينتظره الجميع.

- أين والدك؟ .. يسأل جنكيز شيبان الدبور، ابن كامل الأكبر.

-لا أدري، ذهبنا لنوقظه ولم نره فظنناه أنه قد سبقنا.

- حسنا، أنتم جميعا يا أهلنا وأقاربنا علمتم أن المنتصر في الحرب وصاحب الزعامة هو أول من يشرب من النهر، وها أنا سأشرب من هذه المياه التي هي مياه النهر، أمام العدو والصاحب، أمام كل ممثلين العائلات الكبيرة والصغيرة في وادينا الكبير، أزال عبائته عن ركبتيه وجلس القرفصاء على حافة الواحة، وقبل أن يضع يضع رأسه في المياه ليشرب، سحبت السيوف المهندة جميعها من أنصالها، وتوالى سحب السيوف وتوجيهها نحو جنكيز وأولاده.

- إياك أن تشرب، أنت تخالف تعاليم الإله.

يقول أحد أولاد المحاريد، أولاد عمومة جنكيز.

-وأي إله غائب هذا، حتى من يزعم أنه مرسل من ذلك الإله الغائب قد غاب اليوم. هل فعلا تصدقون حكاية ذلك المجنون؟ يرد جنكيز

- نعم نصدق، لقد انتهت الحرب بفضل نبوءته، وأنت تريد أن تشرب قبل أن يحضر واعلم يا جنكيز أننا هذا لا نقبله. يرد على جنكيز ابن عمه سامع، سامع أبو تله.

صدم جنكيز، كيف حتى أن عائلته لم تعد تواليه، ومع انه سبعيني خرف وكثير النسيان، لكنه كان فيه تلك الحكمة التي علم بفضلها الآن أن النهاية واضحة، وأنه قد هزم، فإن شرب فهو ميت، وإن لم يشرب فهو ميت.

صمت الجميع وجنكيز أبو تلة ينظر في كل الوجه، يتقلبها ويتفحصها وجها وجها، ينظر إلى السماء تارة وإلى الوجوه تارة آخرى، حتى عاد وابعد رداءه عن ركبتيه ونزل برأسه إلى مياه النهر وشرب، مع أصوات لعنات من الناس عليه، وشتائم وما أن رفع رأسه حتى ضربه سامع بسيفه ليضرج بدماءه حافة الواحة، ويخرس بتلك الضربة كل شتيمة، كل صوت، حتى أصوات الطيور، وفي تلك اللحظة يظهر كامل الدبور ويتقدم الجموع، تنحني له الناس، هذا من يقبل يديه، وهذا من يلحس قدميه، وبعد ساعة على هذه الحال وصل إلى حافة الواحة، وشاهد جثة جنكيز عند الواحة والجمع قد حاصر أولاده وأحفاده بدائرة من السيوف الموجهة ضدهم.

-أين كنت؟ يقول سامع لكامل الدبور.

- عند إلهي الذي أخبرني أن أبارككم وأكون أول من يشرب من النهر، وأبارك لكم بانتهاء الحرب.

- ولماذا لم تخبرنا لنرى إلهك؟

- لا أستطيع، أنا عبد هذا الإله ولا أستطيع أن أخالف تعاليمه، وأخبرني أن لا أحضر أحدا.

-وكيف هو شكل إلهك؟

- يشع نور منه أقوى من نور الشمس لذلك لم أره.

-وأين هو الآن هذا الإله؟

في كل مكان، غائب حاضر.

-وماذا نسميه؟

-الغائب، الإله الغائب.

-وماذا أخبرك أيضا الإله الغائب؟

- بأن ثمن انتهاء الحرب لم يسدد، بقي علينا قربان واحد، أولاد جنكيز جميعهم.

لم يتم كامل الدبور كلمته، حتى قام أولاد سامع أبو تله وعموم آل أبو تله بقتل كل أولاد جنكيز وأحفاده، وتركوا نسائهم، ثم شرب كامل الدبور من المياه، وبعدها رموا بمن قتلوه في الواحة حتى صار لونها أحمرا.

تهليل وتصفيق ومباركات عمت المكان، رفع الناس كامل الدبور وبدأوا يطوفون به في الوادي، معلنين انتهاء الحرب وزعامة المشير كامل الدبور على كل قرى وادي البنفسج.

أسس كامل ديانة جديدة، سماها بأتباع الإله الغائب، واتبعه كل سكان الوادي، ويعرفون اليوم باسم طائفة الدبور، وبعد مئات السنوات اختفى وادي البنفسج من الجغرافية، لكن لم تختفي الطائفة، فهي موجودة حية تقدس بطل انتهاء الحرب كامل الدبور، وتدعي الإله الغائب أن ينقلها مع أهلها إلى وادي النبراس، حيث كل شيء هناك بلا ثمن، حيث تستطيع قتل جنكيز بنفسك ألف مرة، العدو والمهرطق الأول دون أن يثأر له أحد، حيث تستطيع كل يوم أن تشرب من مياه نهر الحد الضائع في غياهب التاريخ والجغرافية، والذي صار أسطورة تقول أن من يشرب من مياهه لا يموت ابدا، على الرغم مما تقوله نفس الأسطورة، أن جنكيز بالفعل أول من شرب منه بعد سقوط المطر المقدس، ومات هو وأولاده وأحفاده على الفور.

Post a Comment

syria.suv@gmail.com

Previous Post Next Post

ADS

Ammar Johmani Magazine publisher News about syria and the world.