بقلم الدكتور عبد الهادي طهمازي
من الظواهر التي تبعث في النفوس القلق على مستقبل الخطابة الحسينية وجمهورها، هي اتساع رقعة جمهور الرادود، ونقصد بذلك مواكب العزاء واللطم على حساب المحاضرة الدينية، فجمهور الخطيب آخذ بالتضاؤل ـ إلا في بعض الأحيان ولدى خطباء معينين ـ خصوصا بين طبقة الشباب الذين يفضلون المشاركة في شعيرة اللطم بدلا من استماع المحاضرة الحسينية، بل وتتعالى أصوات البعض مطالبة الخطيب بالاختصار، فصار ((يقال: للخطيب اختصر، ويقال: للرادود أعد)).
صحيح أن الرادود والخطيب كلاهما يخدمان قضية واحدة، ويحييان شعارا لهدف واحد، وهو ربط الجمهور بالقضية الحسينية، وتذكير الناس بفاجعة كربلاء المؤلمة، وإرشادهم الى قيم الخير والفضيلة، وتقوية عقيدتهم بدينهم ومذهبهم.
لكن هناك فرقا في النتائج والمحصلات، فالرواديد ومن خلال القصائد التي ينشدوها سواء أكانت في المواليد أم في الوفيات، مصاغة بالعامية أم بالفصحى، لا تقدم للمتلقي سوى التأثير والتهييج العاطفي، مع ملاحظة أن الكثير من هذه الأشعار والقصائد التي تقال في الحسين وبآل البيت عليهم السلام غدت خالية من أي مضامين عقائدية أو أخلاقية أو ثقافية، وربما يتفق معي بعض القراء الكرام؛ بأن الكثير من هذه الأشعار هي مجرد ((تسفيط)) عبارات.
إن الدين أو المذهب ـ أيُّ مذهب كان ـ يحتاج لكي يستمر ويتوغل في العقول والقلوب ويترسخ، يحتاج الى مجموعة من المقومات.
ومن هذه المقومات عنصرا: المعرفة والعاطفة، فالعلم أو المعرفة لوحدها غير كافية؛ لأن الإنسان لا تحركه نحو تنفيذ الأهداف إلا العاطفة، فكم من الناس لديه القناعة الكاملة بفائدة عمل ما، ومع ذلك لا يقدم على فعله، وما ذلك إلا لنقص في عاطفته تجاه ذلك العمل، فمن من الناس لا يعرف أهمية القراءة وفائدتها العلمية والثقافية؟ ولكن كم هو عدد الذين يقرؤون ولو في السنة كتابا واحدا! والسبب في ذلك هو فقدان العاطفة ((حب القراءة والتعلق بالكتاب)).
وكم من الناس يعلمون علم اليقين بضرر بعض الأعمال وفسادها، ولكن مع ذلك يقدمون عليها، والسبب هو أنهم يحبونها.
فالعاطفة أساس مهم للتحريك نحو الفعل، والاقتناع العقلي وحده غير كاف.
ولكن المعرفة والاقتناع العلمي بأي قضية هي الأخرى مهمة وضرورية، بل إن بقي الإنسان يتحرك دائما في ظل التهييج العاطفي، يغدو جاهلا، والوقوع في ظلمات الجهل أخطر بكثير من فقدان جزء من العاطفة لحساب العلم والمعرفة.
ولهذا ورد في القرآن والسنة المطهرة من التركيز على العلم والمعرفة، أكثر مما ورد من التركيز على عنصر العاطفة.
يقول البعض إن العاطفة تأتي بالعلم، فالذي يعشق كرة القدم مثلا، يحاول التعرف على أسماء اللاعبين والمدربين، وأخبار الأندية الرياضية، ويتعلم قوانين لعبة الكرة ............الخ.
فإذا أحب الإنسان شخصا ما، فإنه يحاول التعرف على كل ما يخصه من قريب أو بعيد.
وهذا صحيح نسبيا، إلا أن صريح القرآن ينص على أن العلم أحد أهم موجبات تقوية العاطفة والإنشداد نحو الموضوع، يقول تعالى:(( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً))
فالعلم والمعرفة يغذيان العاطفة ويقويانها لا العكس.
والخطيب في الخطابة الحسينية يجمع الأمرين، فهو يقدم المعلومات للسامع، كما يقدم له الشد العاطفي في آخر مقاطع المحاضرة، بينما لا يقدم الرادود إلا العاطفة، باستثناء البعض القليل من الأشعار ذات المضامين العقائدية أو الفكرية العالية.
إن الجمهور في أغلب بلداننا الإسلامية جمهور سماعي، أي أنه يعتمد في تلقيه للمعلومات والكسب الثقافي على السماع، وأما القراء فعددهم قليل، ولو تضرر المنبر الحسيني بأن أشاح الجمهور بوجهه عنه بأي شعيرة أو مراسم كانت، فهذا نذير خطر على ثقافة الفرد الشيعي ومستوى وعيه، ولذا لا يشك كاتب هذه السطور بوجود أجندات مرسومة من أطراف معادية للتشيع، تسعى الى إبعاد الجمهور عن المنبر الحسني، مصدر النور والوعي والفكر في الثقافة الشيعية، ومما يؤسف له انسياقنا وراء الشعارات البراقة، فصرنا نخرب بيوت ثقافتنا ومعرفتنا وعلمنا بأيدينا.
ولا أنكر أن لبعض الخطباء دورا حاسما في تزهيد الناس بالخطابة الحسينية، ويساهمون بشكل سلبي خطير على المنبر الحسيني ووجوده، ويتمثل دورهم السلبي هذا في التطويل الممل، والتكرار في تناول الموضوعات، والسطحية في معالجتها، وضعف أساليبه الإقناعية، وهبوط المستوى الثقافي، وعدم الإعداد الجيد للموضوع...........، فأسهم ذلك كله في ابتعاد الناس عن حضور المجالس الحسينية.