بقلم
د. عبد الهادي الطهمازي
اعتمد الإسلام وتبعا له أئمة آل البيت (ع) منهجا يجمع بين التقية من جهة، والج..هاد والمق...اومة من جهة أخرى.
فالتقية: عبارة عن كتمان ما ترى أو تعتقد وإظهار خلافه، للحفاظ على النفس، أو العرض، أو المال، أو الحفاظ على أرواح المؤمنين، وهي تعني بعامة الحيطة والحذر من الضرر. وبالتالي فالموقف من الظالم أو العدو مخفي.
بينما الج...هاد أو مقاو...مة الظالم تعني: بذل النفس والمال في محاربة المشركين، أو الباغين في سبيل إعلاء كلمة الإسلام على وجه مخصوص. وبالتالي الموقف من الظالم أو العدو علني.
وكلا المفهومان وردت فيهما آيات وأحاديث كثيرة تدعو المسلم الى التزام بها، فالقرآن يدعو المسلمين الى الج...هاد في الكثير من آياته الشريفة، كقوله تعالى: ((وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ))(التوبة:36)، وكذلك الكثير من الروايات تحث على الجه...اد ومق...اومة الظالم.
وفي التقية والمداراة أيضا ورد الحث في القرآن والسنة الشريفة، كقوله تعالى: ((لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً)) (آل عمران:28)، والروايات الواردة في التقية هي الأخرى كثيرة أيضا.
فأي السبيلين يسلك الفرد المسلم، هل يتبنَّى منهج التقية مع الكافرين والظالمين، أم يتبنَّى منهج الج...هاد والمق...اومة معهم؟
من المؤكد أن في مجتمعاتنا الإسلامية لكل من المنهجين أنصار، وما رفع المتحمسون للج...هاد أدلتهم، حتى يرفع المتحمسون للتقية أدلة منهجهم أيضا، والموضوع لا يتوقف عند هذا الحد فكل أصحاب اتجاه يعتقد أنه على حق والاتجاه الآخر على باطل، وربما تحدث بينهم مشاحنات كلامية أو جدال أو مضايقات، وهذه ليست جديدة، فحتى في زمن الأئمة (ع) كان الذين يتبنون خط الج...هاد من الشيعة في حالة نفور ممن يتبنون خطة التقية منهم.
دخل الحسن بن زياد العطار على الإمام الصادق (ع)، وكان من أهل الكوفة، فقال: جعلت فداك، إني قد هممت بالمقام. يعني في المدينة.
قال: ولم؟
قال: إن ظفر زيد وأصحابه فليس أحد أسوأ حالا عندهم منا، وإن ظفر أحد من بني أمية فنحن عندهم بتلك المنزلة.
فهذه الرواية تكشف حالة النفور بين قطبي الشيعة آنذاك، قطب المق...اومة المتمثل بالزيدية، وقطب التقية المتمثل بخط الإمام الصادق (ع).
في الواقع أن أئمة آل البيت (ع) أذكياء جدا، حيث زرعوا عدة اتجاهات مختلفة في المجتمع الشيعي، وذلك لأهداف وغايات: فهم لا يريدون للمجتمع الشيعي أن يتبنى فكرة الج...هاد والمق...اومة بشكل دائم كما صنع الخوارج.
حيث وضعوا أسيافهم على عواتقهم ولم يجعلوا لأنفسهم فرصة للبناء أو التزاوج وبناء أسرة لتكون نواة لمجتمع كبير، بل ضلوا هاربين في الحفر والصحاري والجبال، ولم يكن لهم وقت حتى في إيصال فكرهم ومنهجهم الى الناس، فهلكوا وبادوا إلا القليل منهم ممن ألقى السلاح واختط المنهج السلمي.
كما أنهم لا يريدون للكتلة الشيعية أن تكون خانعة لكل طاغية، يفعل بها ما يشاء وهي صامتة بحجة ممارسة التقية والمداراة، فالسلام يحتاج الى قوة تحميه.
دخل رجل على الإمام الصادق (ع) ويظهر أنه تعرض للكثير من التفتيش والمضايقة من الشرط بعد ثورة زيد، فلما استقر به المقام، قال: هذا ما جنيناه من زيد وأصحابه.
فغضب الإمام الصادق (ع)، وقال: لولا أن هؤلاء -يعني الحكام الأمويين- مشغولون بزيد وأصحابه، لما تركوني وإياك.
إن الإسلام يرعى في حياة الأمة جانبين: الحفاظ على هوية الأمة من جهة يعني الهوية الاجتماعية، وعلى حياة المسلمين وممتلكاتهم من جهة أخرى يعني الهوية الشخصية، هذا أولا.
وثانيا: الشارع المقدس أخذ بنظر الاعتبار اختلاف اتجاهات الناس، وميولهم واستعداداتهم النفسية، ففتح لكل صنف من هؤلاء وهؤلاء ما يتناسب وميوله الشخصية واتجاهاته الاجتماعية.
إن الحفاظ على هوية الأمة وصيانة مقدساتها من دنس الأعداء والظالمين لا يتم إلا بحمل السلاح والجهاد في سبيل الله، وما تركت أمة الجهاد إلا وتعرضت الى الذلة والصغار وامتهنت من الأمم القوية المستكبرة، ولكن حمل السلاح والى الأبد قد يعرضها الى هزات عنيفة بحيث تفقد خيرة أبنائها.
فكلا المنهجان مقبولان إسلاميا؛ لأن أحدهما يحفظ الآخر ويصونه، فكما تحتاج الأمة الى من يصون شرفها في ساحات الج...هاد، تحتاج أيضا الى من يرفع علمها في جانب الفكر والعلم، وتحتاج الى من يزرع ليوفر القوت للناس، فلو ج...اهد الناس جميعا لتعطلت الأعمال ولمات الناس جوعا، وغزاهم الفقر والمرض.
إلا أن المطلوب على صعيد الواقع: أن يتقبل كلٌّ من أنصار المنهجين المنهج الآخر، ويجعل حقيقة كمال الأمة في سير هذين الخطين جنبا الى جنب، فلا يشنع أحدهما على الآخر ويصفه بالخروج من ربقة الدين، ومخالفة تعاليمه.
ولا يشترط أن يمارس شخص واحد أو جماعة معينة من الأمة كلا الدورين وفي وقت واحد، بل يمكن أن يمارس بعضهم التقية والبعض الآخر يضطلع بدور الج...هاد، كل بحسب ما آتاه الله تعالى من قابلية ومؤهلات، وخير شاهد على صحة عمل كلا الطرفين ما روي عن الإمام الباقر (ع)، قال عبد الله بن عطاء: قلت لأبي جعفر (ع) الباقر: ((رجلان من أهل الكوفة أُخذا، فقيل لهما: إبرئا من أمير المؤمنين (ع)، فبرئ واحد منهما، وأبى الآخر، فخلي سبيل الذي برئ، وقتل الآخر.
فقال (ع): أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرء فرجل تعجل إلى الجنة))(أصول الكافي: 2/221).
ففي ضوء هذا الحديث ارتضى الإمام (ع) عمل كلا الرجلين، ووصف الأول بأنه متفقه في دينه حيث استعمل التقية ونجا بنفسه عن القتل، وأما الآخر فهو مج...اهد مشتاق الى لقاء ربه، فتعجل دخول الجنة، ولا يعاب منهما أحد طالما كانا يعملان في ضوء القرآن والسنة وكل حسب طاقته، قال تعالى: ((قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً))(الإسراء:48).
ويبقى الكلام في أيهما أفضل ، فلا شك أن خط الجه...اد والمق..اومة أفضل بنص القرآن الكريم: ((لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاه..دون في سبيل الله)).
فضع لسانك في فمك واسكت إن لم تكن منهم.