بعد سقوط النظام السوري في 8 كانون الأول 2024، تواجه سوريا اليوم تحدياً تاريخياً في مرحلة لمّ شمل مكوناتها وإعادة البناء، بعد حوالي 14 عاماً من الصراع الذي خلّف دماراً كبيراً وآثاراً عميقة على النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد، لقد بات واضحاً أن مستقبل سوريا الجديدة لا يمكن أن يقوم إلا على أساس التعددية والتعايش والاحترام المتبادل بين جميع مكوناتها العرقية والدينية، لذا من الضروري رفض خطاب الكراهية والفرقة، الذي انتشر بشكل متزايد بعد سقوط النظام، لاسيما من قبل بعض الإعلاميين والنشطاء المشهورين على وسائل التواصل الاجتماعي لكسب الإعجابات والمال، دون أي رادع وجداني وأيّة مسؤولية أخلاقية، حيث أصبح عاملاً يؤثر بشكل سلبيّ جداً على التقارب و المصالحة الوطنية، وإذا استمر بهذا الشكل، فإنه سيعيق عملية بناء دولة قوية قائمة على المساواة والعدل.
على مدى العقود الماضية، عانى الشعب السوري من نظام سلطوي استبدادي، بدءاً من مجازر تدمر، حماة، جسر الشغور، سرمدا وحيّ المشارقة في حلب، وصولاً إلى المجازر التي ارتُكبت خلال الثورة السورية، وقد قدم الشعب السوري بكافة مكوناته تضحيات هائلة في سبيل إسقاط النظام والدفع نحو بناء دولة عصرية حديثة، حيث لم يقتصر النضال السوري على شكل واحد، بل شمل المظاهرات السلمية، والحراك السياسي، والمقاومة المسلحة، وأنّ الثمن الذي دفعه السوريون كان باهظاً، فقد تعرض آلاف السوريين للاعتقال والتعذيب، وخسر مئات الآلاف أرواحهم واستشهدوا في سبيل الحرّية، بينما هُجّر الملايين من منازلهم داخل البلاد وإلى خارجه، ومع ذلك لم يكن الهدف من هذه التضحيات مجرّد الإطاحة بالنظام الدكتاتوري، بل لتحقيق العدالة والمساواة وبناء دولة تحترم جميع مواطنيها دون تفرقة و تمييز.
بعد سنوات من الحرب والانقسام، لم يعد مقبولاً استمرار ثقافة الإقصاء أو الهيمنة العرقية أو الدينية، إن مستقبل سوريا لا يمكن أن يُبنى على عقلية الاستبداد، بل يجب أن يستند إلى التعددية واحترام التنوع الثقافي والاجتماعي والسياسي، لا يمكن لأي فئة أن تفرض نفسها على الآخرين أو تطلب منهم أن يعيشوا مثلها، بل يجب أن تتعايش جميع المكونات تحت مظلة المواطنة المتساوية، بحيث تكون سوريا وطناً للجميع، دون تفريق بين عرق أو دين.
وآن الآوان أن يتعرّف السوريون على الشعب الكوردي الذي هو جزء أساسي من نسيج هذا الوطن الكبير، ولتعزيز التفاهم والتعايش السلمي بين جميع المكونات السورية، من المهم أن يتعرّفوا على خصوصياتنا وثقافتنا، نحن الكورد نملك تاريخاً عريقاً وتراثاً غنياً يعكس التنوع الذي يميز سوريا، دعونا نفتح أبواب الحوار والتفاهم، ونعمل سوياً من أجل بناء وطنٍ يتسع لجميع أبنائه، حيث يسود الاحترام المتبادل والعدالة لجميع مكوناته، لنتعرف على بعضنا البعض بشكل أقرب و أعمق، فالتعاون بيننا هو السبيل لبناء سوريا مزدهرة وآمنة للجميع، وإليكم بعض خصوصيات الشعب الكوردي في سوريا باختصار:
تسمية كوردستان سوريا
يشير مصطلح "كوردستان سوريا" إلى المناطق التي يسكنها الكورد في شمال وشمال شرق سوريا، وهي أرضهم التاريخية التي تمتد عبر عدة مدن وبلدات، مثل عفرين، قرى ريف إعزاز والباب، كوباني حتى تل أبيض، رأس العين، الدرباسية، عامودا، القامشلي، ديريك، الحسكة، وغيرها. كما يعيش الكورد أيضاً في أرياف ومدن محافظات سورية أخرى، مثل حلب، حماة، حمص، دمشق، اللاذقية، والرقة. ويُعد الكورد ثاني أكبر قومية في سوريا بعد العرب، وتُقدَّر نسبتهم بحوالي أكثر من 15% من إجمالي سكان البلاد حسب تقديرات غير رسمية، يتميز الكورد بهوية ثقافية ولغوية مختلفة، وهي جزء من التنوع الذي يُغني النسيج الاجتماعي السوري، ولا ينبغي للمكونات السورية الأخرى أن تتحسس أو تخشى من مصطلح "كوردستان سوريا"، تماماً كما هو الحال مع تسميات مناطق سورية أخرى، مثل منطقة حوران أو جبل العرب أو جبل الدروز، الجزيرة السورية، منطقة الساحل السوري، والبادية السورية والحوض العاصي و.. الخ، فجميع هذه الأسماء تعبّر عن التنوع الجغرافي والثقافي لسوريا، وهو عامل إثراء للوطن ولا تهديد له.
تاريخ الشعب الكوردي في سوريا
يعود وجود الكُرد في سوريا إلى قرون طويلة، حيث كانوا جزءاً من النسيج الاجتماعي في المنطقة منذ العصور القديمة، ومع تشكّل الدول القومية الحديثة بعد تفكك الدولة العثمانية، وجد الكورد أنفسهم مقسمين بين أربعة دول: تركيا، إيران، العراق وسوريا، وفق اتفاقية سايكس بيكو عام 1916. وفي سوريا تعرض الكورد لسياسات تمييزية، حيث مُنعوا من حقوقهم السياسية والثقافية والاجتماعية وتعرضوا لممارسات قمعية، مثل مشروع "الحزام العربي" في الستينيات والسبعينيات القرن الماضي، والإحصاء الاستثنائي لعام 1962، الذي جُرّد بموجبه حوالي ربع مليون كوردي من الجنسية السورية، في محاولة لتغيير التركيبة الديموغرافية في مناطقهم وتعريبها، كما مُنعوا من ممارسة لغتهم وثقافتهم بشكل رسمي.
العلم الكوردي
يُعتبر علم كوردستان أحد الرموز القومية للشعب الكوردي، حيث يُرفع في المناسبات القومية والاحتفالات، إلى جانب علم الاستقلال وخاصةً أيام مظاهرات الثورة السورية، تماماً كما أن للمكونات الأخرى في سوريا رموزها الثقافية الخاصة بها، مثل الدروز، والسريان، والآشوريين.
النشيد الكوردي "أي رقيب"
يُعد نشيد "أي رقيب" النشيد القومي للكورد، ويحمل معاني النضال والصمود في وجه الظلم. يردده الكورد في احتفالاتهم ومناسباتهم القومية، إلى جانب النشيد الوطني السوري، تعبيراً عن انتمائهم القومي واعتزازهم بهويتهم ضمن الوطن السوري.
اللغة الكوردية
تُعد اللغة الكوردية جزءاً أساسياً من الهوية الكوردية، وتُكتب حالياً بالأبجدية اللاتينية التي تتألف من 31 حرفاً، والتي وضعها الأمير جلادت بدرخان في دمشق. هذه اللغة تُعتبر جزءاً من التراث الثقافي الكوردي والسوري، تماماً كما هو الحال مع اللغة العربية، والسريانية، والأرمنية.
عيد نوروز
عيد نوروز، الذي يُحتفل به في 21 آذار من كل عام، هو رأس السنة الكوردية والعيد القومي للشعب الكوردي. يُمثل نوروز عيداً للحرية والهوية، حيث يحتفل الكورد بهذا اليوم بالخروج إلى الطبيعة وإشعال النيران، كرمز للصمود والفرح، وفي نوروز عام 1986، منعت السلطات السورية الاحتفال بعيد نوروز، مما أدى إلى احتجاجات حيث خرجت مظاهرة سلمية إلى القصر الجمهوري في دمشق، استشهد فيها الشاب الكوردي سليمان محمد أمين آدي برصاص الحرس الجمهوري وقتها، لاحقاً أصدر حافظ الأسد مرسوماً جعل يوم 21 آذار عطلة رسمية في سوريا، ولكن تحت مسمى "عيد الأم"، في محاولة لإنكار الطابع القومي لنوروز.
الحركة السياسية الكوردية في سوريا
بدأت الحركة السياسية الكوردية في سوريا مع تأسيس أول حزب سياسي كوردي عام 1957 باسم الحزب الديمقراطي الكوردي أو الكوردستاني في سوريا، حيث ظهر أول تنظيم سياسي كوردي للمطالبة بالحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية للشعب الكوردي في سوريا، وعلى الرغم من العقود الطويلة من التجاهل والقمع الممنهج والاعتقالات التي وصلت إلى أكثر من 10 سنوات لبعض السياسيين الكُورد، استمر النضال الكوردي من أجل تحقيق الاعتراف بالهوية الكوردية في سوريا حتى اليوم، ويجب أن تكون مجموع أحزاب الحركة الكوردية ممثلاً حقيقياً للشعب الكوردي في الحوارات حول شكل الدولة السورية وتأمين حقوق الشعب الكوردي في الدستور الجديد للبلاد كضمان في أن لا يتعرّض للظلم والغبن مرّة أخرى.
الكورد في الثورة السورية
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، لعب الكُورد دوراً مهماً في الحراك الثوري السوري، حيث اعتقلوا بالآلاف وقدموا عشرات الشهداء، ومن أبرزهم القيادي الكوردي المعروف الشهيد مشعل تمو الذي اغتيل على يد النظام السوري وبعضها أصبح أحد رموز الثورة السورية في المحافظات الأخرى، ومازال مصير المئات من الكُورد مجهولاً بعد اعتقالهم من قبل النظام السوري وتنظيم داعش، كما تعرّض الشعب الكوردي إلى التهجير القسري من مناطقهم بعد هجوم تنظيم داعش وبعدها الفصائل التابعة لتركيا على مناطقهم، وساهم الكورد لاحقاً في محاربة تنظيم داعش والانتصار عليه بدءاً من معركة كوباني الشهيرة وحتى باغوز.
عن تهمة الانفصال
هذه التهمة باطلة، وقد اخترعها نظام البعث البائد تهرّباً من الاعتراف بحقوق الشعب الكوردي. ومازال بعض تلاميذ حافظ الأسد وأيتام حزب البعث يرددونها بهدف تخريب النسيج الاجتماعي في سوريا وتشويه سمعة الشعب الكوردي، وذلك لكسب أصوات العنصريين خدمةً لمصالحهم الشخصية.
خلاصةً، إن بناء سوريا الجديدة يتطلب منا جميعاً أن نعمل معاً، متجاوزين كل أشكال التفرقة والانقسام وأن نبتعد عن الأحقاد ونحرّم خطاب الكراهية بين السوريين، لا يمكن أن تكون سوريا حكراً على مجموعة واحدة، بل يجب أن تكون دولة للجميع، قائمة على العدل، والمساواة، وحقوق الإنسان، وعلينا أن ندرك أن خطاب الكراهية لا يؤدي إلّا إلى تعميق الفُرقة، بينما يمثل قبول الآخر الطريق الحقيقي نحو بناء مجتمع متماسك ومزدهر، سوريا المستقبل لا يمكن أن تُبنى إلا بوحدة أبنائها، واحترامهم المتبادل وإيمانهم المشترك بمستقبل يسوده الكرامة والحرّية والسلام