أجل، فازت كرواتيا اليوم ببطولة كأس العالم لكرة القدم، رغم أن فرنسا من حصد اللقب، فالرسائل التي أرسلها الفريق الشاب والجمهور الكبير لدولة صغيرة لا تتجاوز أربع ملايين نسمة، كانت أكثر من أن تعد، والتي جلها ربما، لا يتعلق بـ"اللعبة" بقدر ما يتمحور حول صناعة الثقة والمحبة، ربما ليقين الرئيسة كوليندا غرابار كيتاروفيتش، أن الأقدام المرتجفة لا تصنع الانتصارات، ليأتي الانقلاب الأبيض على مفاهيم كثيرة، إن بدأت من إنسانية الرئيس التي لم تمر يوماً على معاجم حكامنا، ومؤازرته لشعبه، لا تنتهي عند كسر احتكار من كانوا يسمّون كباراً، فأن يصل الكروات ولأول مرة لنهائي المونديال، بعد خروج البرازيل وألمانيا والأرجنتين، بل وعدم وصول إيطاليا وهولندا للمونديال، ففي ذلك "عبرة" على أن التغيّر بالعالم، لن يقتصر على السياسة والاقتصاد، بل طاول الرياضة وكرة القدم أولاً.
ويمكن القول، بعيداً عن الجمال والتألق والتواضع، أن كيتاروفيتش كانت وبجدارة زعيمة الانقلاب، وربما لو يشملها تصنيف الفيفا، لبلغت الأغلى ثمناً بين لاعبي الفرق التي شاركت بمونديال روسيا الذي أحسنت المافيا البوتينية من استثماره، ليغطي على الديكتاتورية وجرائم بوتين، بل ويصدر روسيا كعملاق اقتصادي وسياسي، لا بد لأوروبا والولايات المتحدة، أن يعيدا النظر، بكل شيء إزاءه، وأولاً بنظرتهم لهم.
وبالأمس أيضاً، مرت الذكرى الثانية للانقلاب الفاشل الذي ضرب تركيا في 15 تموز 2016، والذي أيضاً، أرّخ لمرحلة تركية، ربما بالانتخابات الرئاسية أخيراً، تتمة لملامحها، لتبدأ تركيا من جديد، ليس نحو "العشرة الكبار" بل وربما أكثر.
سآتي بما يشبه السرد والحكائية على ما عشته وعايشته بتلك الليلة، والتي أخافتنا كسوريين ووضعتنا أمام خيارات صعبة، ربما أقل من الأتراك، بما لا يزيد عن وزن حبة خردل.
لم نكن نعرف إلى أين ستؤول النتائج، ربما لأننا لم نشهد انقلاباً من ذي قبل، أو لأننا نجهل أثر الديمقراطية بداخل الأتراك وكيف سيدافع الشعب عن مكتسباتها.
كنت وأصدقاء في ساحة تقسيم وقت بدأت ملامح الشوارع تتغير، الناس تتسارع لجهات نجهلها والمحال بدأت تغلق أبوابها، قبل أن ينتشر الجيش التركي بالساحة الأشهر بإسطنبول، كانت الساعة على نحو الحادية عشرة من ليلة 15 تموز عام 2016، وكان اليوم الأصعب على تركيا الحديثة ربما، ربما في ذلك الانقلابات الخمسة السابقة التي شهدتها البلاد منذ عام 1960.
دفعنا الفضول المهني للمتابعة، رغم المخاطر التي بدأت تتزايد تباعاً، حتى وصلت لإطلاق النار وانتشار العربات والجنود، إذ كنا إلى ما قبل ذاك، نظن أنها "فرجة" أو محاولة سيتم تطويقها سريعاً. لكن تطور الأحداث على الأرض وبأهم مناطق إسطنبول، بما فيها إغلاق جسر البوسفور "جسر الشهداء لاحقاً" وإعلان رئيس الوزراء، بن علي يلدم أن ما يجري محاولة انقلابية، دفعنا للرجوع وكبت حتى دوافعنا الصحافية، فنحن بالنهاية غرباء وما يجري شأن داخلي...وربما يتطور.
حاولنا -كإعلاميين سوريين- العودة لمنازلنا، خاصة بعد الإعلان أن جماعة "فتح الله غولن" هي من يقود الانقلاب، بمساعدة قادة جيوش وعناصر من الأمن والشرطة التركية، بل وسيطرة الانقلابيين على القناة التلفزيونية التركية الرسمية، وإجبار المذيعين على قراءة بيان الانقلاب وسلطة جديدة ودستور قريب.
لم يكن بيان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد صدر بعد، وأذكر أني تواصلت بتلك الليلة، مع المترجم الأشهر عن التركية، المرحوم عبد القادر عبد اللي، المراقب من أنقرة، وأذكر أنه قال بأسف وخيبة "عدنان لقد نجح الانقلاب" وروى لي وهو المتخصص بالشأن التركي، أحداثاً مماثلة وما يمكن أن تؤول إليه الأمور جراء حكم العسكر.
وقتذاك، أذكر أن الرئيس السابق، عبد الله غل، ظهر على قناة فضائية تركية، وقال بلهجة حادة، إنه لا يمكن قبول المحاولة الانقلابية، ودعا إلى الديمقراطية طالباً إلى الشعب أن يتخذ موقفاً ضد الانقلاب، ورغم ما لظهور غل من أثر، بيد أنه لم يغير من ملامح الشارع ولا من تسارع الأمور التي تشير بمجملها لنجاح الانقلاب، حتى جاء ظهور الرئيس أردوغان على إحدى الفضائيات عبر تطبيق بالتواصل الاجتماعي، ودعوته الشعب التركي بالنزول إلى الميادين والطرقات ومواجهة الانقلابيين.
هنا بدأت ما يمكن وصفها، بالظواهر المدهشة، فمن ساحة تقسيم التي كنا نهم مغادرتها وتأخرنا لإغلاق الشوارع وعدم وجود وسائط نقل، بدأ الشعب التركي يواجه الجيش والعربات ودعوتهم بالعودة إلى الثكنات.
وسنأتي سريعاً وتأريخاً وفق مشاهداتنا وقتذاك، على أمرين اثنين، قبل الذي حصل، من قصف الطائرات بأنقرة للبرلمان وقرب القصر الرئاسي وما قيل عن عودة الرئيس أردوغان من مرمريس، حيث كان وأسرته بإجازة سنوية، قبل حديثه لـ"سي ان ان" التركية الذي كان ربما له الدور الأبرز بالطمأنة وإفشال الانقلاب، وما تلاه من مواقف وتصريحات، ربما من أهمها، موقف رئيس الحزب الجمهوري المعارض، كمال كليجدار أوغلو حول ضرورة الدفاع عن الديمقراطية وتصريح رئيس الوزراء السابق، أحمد داوود أوغلو، حول عودة السلطة إلى قبضة الأمن والشرعية، أو وصول الرئيس أردوغان لمطار أتاتورك بإسطنبول ولاحقاً، عودة قناة "تي ري تي" الرسمية للبث، بعد إعلان بيان للانقلابيين، وظهور المذيعة "تيجين كاراش" لتعلن للأتراك كيف تم إجبارها على قراءة البيان العسكري للانقلابيين تحت الضغط والتهديد بالسلاح.
ومن ثم، ربما أهم ملامح فشل الانقلاب، وصول الرئيس أردوغان إلى إسطنبول، فجر 16 تموز/يوليو، وتجمع الأتراك حوله، ليعلن من مطار أتاتورك "منفذو الانقلاب هم مجموعة ممن يكرهون تركيا ويتلقون أوامرهم من بنسفانيا"، ويؤكد فشل المحاولة.
الأمر الأول، أو أهم الظواهر المدهشة ليلة الانقلاب، وتحديداً في الساعة 12 و13 دقيقة من ليل 15 تموز، كان صوت المآذن بالتكبير ودعوة الأتراك للنزول للشوارع والساحات لمواجهة الانقلابيين، وكنت حينذاك بطريق عودتي سيراً على الأقدام، إلى حي الفاتح الأكبر وربما الأشهر بإسطنبول، ورأيت كيف يتقاطر الأتراك، رجالاً ونساء وأطفالاً، نحو "أكسراي، مكان الأمنيات ومنطقة الإطفائية، حيث بلدية الفاتح وساحة تقسيم، وهي المناطق الأكثر خطورة وتواجداً للانقلابيين.
وهنا، ربما من الضرورة الإشارة سريعاً، لدور المساجد بتركيا، والذي تعدى الروحي ليأخذ أدواراً اجتماعية، بعد أن شهدت تلك المساجد، بعد وصول مصطفى كمال أتاتورك للسلطة عام 1923، ومن ثم أيام الرئيس عصمت أنينو، وإلغاء الخلافة ومنع رفع الآذان بجامع آيا صوفيا عام 1925 وتحويل قراءة القرآن والآذان للغة التركية، قبل أن تشهد بعض المساجد، إغلاقات وتهديما أو تحويلها لمخازن حبوب، عام 1927 وورود مادة بقانون الموازنة العمومية باسم "مشكلة الجوامع بتركيا" التي دعت للإغلاق والهدم لأن "أكثر الجوامع فائض عن الحاجة". وما إلى ذلك حتى، نشر القانون الذي أصدر عام 1935 لإغلاق وبيع المساجد في 22 من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1935 في جريدة رسمية.
وأما الأمر المدهش الآخر، والذي يمكن مقاربته من سؤال، كيف وصلت تلك الأعداد الهائلة من الأتراك، الذين لبوا نداء الرئيس والجوامع، إلى الساحات ومواقع سيطرة الانقلابيين.
إنه السائقون عموماً وسائقو سيارات الأجرة الصفراء خاصة، والتي تجمعهم مع الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء يلدرم علاقات وصور وموائد طعام مشتركة. فهم من أوصل وبالمجان، الأتراك إلى شارع وطن بأكسراي حيث مبنى الأمنيات الذي سيطر عليه الانقلابيون، وإلى مطار أتاتورك حيث انتظر الأتراك وصول الرئيس وأعاقوا الانقلابيين وإلى جسر البوسفور الفاصل بين شطري إسطنبول الأسيوي والأوروبي.
وربما لا يعلم القارئ، أن جميع سائقي سيارات الأجرة باسطنبول، لديهم هاتف خليوي صغير، هو بمثابة جهاز اتصال لاسلكي فيما بينهم أو مع المكاتب الخاصة بسيارات الأجرة، يوجهون من خلاله نداءات خلال الطوارئ والأزمات، ولكن وبحسب ما صرح سائقون لـ"العربي الجديد" بأنهم لم يتلقوا أي اتصال أو أمر، لكن مبادرتهم كانت شخصية حبا بتركيا وبالديمقراطية وبالرئيس.
وشاهدنا، فضلاً عن سيارات الأجرة الصغيرة، خروج السيارات الشاحنة تلك الليلة، لتقل الشعب لمناطق الانقلابيين، لكن صورة السيدة "شريفة بوز" المحجبة التي كانت تنقل الأتراك إلى الساحات وجسر البوسفور، كانت الأبرز بل وباتت من رموز إفشال الانقلاب بتركيا.
ففي ليلة محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 من تموز/يوليو، وحينما استجاب ملايين الأتراك لنداء الرئيس رجب طيب أردوغان للخروج إلى الشارع لحماية الوطن والديمقراطية، خرجت شريفة بوز التي تقيم في منطقة "كاغيت خانة" إلى جسر البوسفور، لتقود شاحنة نقل كبيرة وإلى جانبها جارتها بالمنزل، بعد أن ملأتها بالشباب الرافضين للانقلاب.
نهاية القول: دائماً، وإزاء أي حدث، تتملكنا الغصة، فنحن البعيدون عن أي منصات التتويج، بل لم نعرف طريقا للفرح والانتصار والنجاح يوماً، وخاصة على المستوى الجماعي أو الوطني، إذ ربما يخرج من سوريا غادة شعاع مثلاً، ولكن لا يمكن للعبة جماعية أن تصل للضوء...ببساطة، لأن الحكام يقتلون فينا الثقة ويؤثرون على رجفان أيدينا وأقدامنا، بل وإبعادنا عن المنهجية والعلم، بعد أن تعدت الرياضة وخاصة كرة القدم، مسائل المهارة الفردية و"طجت لبعت".
وكذا على صعيد السياسة، ففي حين وقف جل الجيش مع الشعب بتركيا، بل ووقف الشعب مع مكتسباته ومصالحه بإفشال الانقلاب للمحافظة على مستوى المعيشة والديمقراطية، وقف العالم بأسره إلى جانب عصابة الأسد بسوريا، ليحرموا السوريين، وبعد خمسين عاماً من الوجع والانتظار، تحقيق حلمهم بأعضاء لا ترتجف، إن أيدي تكتب التاريخ والأمل ..أو أقدام تصنع الانتصارات.
from أخبار سورية - زمان الوصل http://bit.ly/2NMPHgZ
via IFTTT