تحولات كبيرة في المعطيات الجيوسياسية المتعلقة بالشأن السوري، فالتغيرات السياسية والعسكرية المتسارعة لصالح الدولة السورية وجيشها، يبدو أنها أفقدت محور العدوان على سوريا، خياراته التصعيدية عسكريا، وبات الحاضن الرئيس لمجمل التطورات في إطار سياسي بحت.
فبعد أن فرضت الدولة السورية معادلات الانتصار الميداني، وبسط سيطرتها على غالبية الجغرافية السورية. تحولت بعض البؤر الجغرافية إلى جزئية سياسية تفرض تأثيرا في سياق الحل السياسي السوري، فالكرد وكذلك الفصائل الإرهابية في إدلب، هما جزء من كباش سياسي بين مختلف القوى الفاعلة والمؤثرة في الشأن السوري، والذي سيفرض نمطا معطلا لأبجديات الحل في سوريا. وقد يطول. خاصة أن جملة الاستحقاقات الإقليمية والدولية، باتت مؤطرة بقدرة الجيش السوري على إفراغ جيوب الإرهابيين من محتواها العسكري القادر على التأثير السياسي في الجغرافية، والعبث مجددا في خرائط السيطرة العسكرية. هذا الواقع الجديد أفرز بتداعياته محاولة القوى الدولية والإقليمية إعادة تموضعها في سياق خارطة الحل السياسي السوري، بغية تأمين الحد الأدنى من المكتسبات السياسية، الأمر الذي يشي بأن الملف السوري قد يدخل منعطفا جديدا، جزئياته تمتاز بالتعقيد والتشابك السياسي. أمام هذا الواقع، بات من الواضح أن الولايات المتحدة وتركيا ومناوراتهما باتت محركا للكثير من التطورات المتعلقة بملفي إدلب والكرد. وبات واضحا أن جل التوجهات الأمريكية والتركية تتمحور في صوغ معادلات جديدة، يكون لها إنعكاسات داخلية، وفي جانب أخر لا يخلو من الأهمية الاستراتيجية التي يحاول عبرها ترامب وأردوغان، حيازة الكثير من الأوراق التي ستؤمن لهما حدا أدنى من الامتيازات السياسية التي يراهنان عليها، سواء لجهة تداعيات التحرك العسكري السوري تجاه إدلب، والسيطرة الكاملة للجيش السوري على أكثر المناطق حساسية في التوجهات التركية، أو لجهة ازدياد الهواجس الأمريكية جراء التفاهمات السورية الكردية. كل هذه المعطيات ستكون بمثابة الجسر الذي يعبران من خلاله إلى بوابة التوازنات الإقليمية والدولية الخاصة بالملف السوري. من هنا يبدو أن ملف ادلب سيكون بمثابة ورقة اخيرة لتركيا، كم أن ملف شرق الفرات سيبقى ضمن إطار المعادلات الامريكية.
الكرد في شرق الفرات، والفصائل الإرهابية في إدلب، يبدو أنهما تجاهلا معادلة هنري كسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، حين قال “إذا كانت عداوة أميركا مخيفة فإن صداقتها مميتة”. والواضح من سياق التطورات السورية، بأن مراهنة الكرد والإرهابيين على الدعم الامريكي يندرج ضمن إطار الصداقة الأمريكية المميتة. فالكرد وبعد قتالهم تنظيم داعش الإرهابي، وفقدان هذه الورقة الإرهابية أبعادها السياسية والعسكرية، باتوا رهينة التفاهمات الأمريكية التركية، حتى أن واشنطن زجت بهم في معركة غير متكافئة مع تركيا، وتم التخلي عنهم في توقيت جيوسياسي، هيئ للجميع إثر هذا التخلي أن واشنطن عدلت تكتيكيا خيارتها الاستراتيجية في سوريا، بينما الواضح أن واشنطن لا تزال تستثمر سياسيا في الجغرافية السورية، وترتكز في تنفيذ أجندتها على الكرد والإرهابيين. كما أن لتركيا دور هام في سياق الأجندة الأمريكية، حيث أن الدخول التركي لمناطق شرق الفرات، يتناغم في المضمون والأهداف مع السياسية الأمريكية، لجهة التغير الديموغرافي في شمال شرق سوريا. وبالتالي فإن لعبة قلب الحقائق لا تتغير لدى واشنطن وأنقرة، فكلاهما يخرقان السيادة السورية، وكلاهما أيضا يرفعان شعار “الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها والقضاء على الإرهاب”. وعليه فإن خطر الوجود التركي بالجغرافية السورية، لا يقل خطورة عن السياسية الامريكية المتمثلة بتوزيع الأدوار بين أنقرة والكرد وبقايا داعش، خاصة أن استراتيجية الاستثمار في قرار ترامب لجهة الانسحاب من مناطق شمال شرق سوريا، تدار بطريقة تكتيكية مؤثرة ومعطلة لأي تفاهمات تفضي إلى التوصل لحل سياسي صرف خال من شوائب التجاذبات والتعقيدات الأمريكية.
ضمن التحولات الجيوسياسية، كان واضحا منذ البدء، أن الرهان الأميركي على شرق الفرات أكبر من الإمكانات التي وضعتها واشنطن لتحقيقه، وهذا ما أشار إليه الموفد الأميركي إلى ما يسمى “التحالف الدولي” بريت ماكغورك، الذي استقال بعد إعلان ترامب سحب القوات الأميركية في شتاء العام الماضي. فهو اختصر في مقال نشرته “فورين أفيرز” ما أريد تحقيقه من نشر القوات الأميركية في سوريا بخمس نقاط: “المساواة مع روسيا، احتواء إيران، ضبط تركيا، إبقاء الدول العربية على الخط، ومنع عودة داعش”. لا بل أن جيمس جيفري الذي خلفه في المهمة وسع بيكار الأهداف من استمرار الحضور العسكري الأمريكي شمال سوريا عبر: “متابعة محاربة داعش، منع أطراف أخرى من ملء الفراغ، دعم إسرائيل، وقف حصول الدولة السورية على المال لإعادة الإعمار، ووقف جهود سوريا وروسيا لإعادة اللاجئين، وعرقلة الاعتراف بالدولة السورية في الجامعة العربية”. ولا مجال لتحقيق كل هذه الأهداف من خلال وجود عسكري محدود لكن الانسحاب يجعلها أوهاما.
ولعل الترابط العضوي بين إدلب وشرق الفرات، يفند بدقة التوجهات الامريكية حيال مشهد الشمال الشرقي من سوريا. هو مشهد لم تغب عنه تركيا بالمطلق، فالتماهي الامريكي التركي بات واضحا في نسق التحركات السياسية والعسكرية، وتوظيف المصالح المشتركة في سبيل إبقاء العلاقات الامريكية التركية في مستواها الاستراتيجي، وترميم أي خلافات من شأنها التأثير على السياق العام للأهداف المشتركة في سوريا، فمن جهة بات غابة للصيد الأمريكي واقتناص المكاسب السياسية، ومن جهة أخرى بات شمال شرق سوريا فرصة لمد تركي جديد، وإبقاءه عمقا استراتيجيا يمكن من خلاله إحداث أكبر قدر من التصدعات السياسية على مستوى الإقليم.
العوائق والتعقيدات لا زالت تفرض بعدا استراتيجيا في شمال شرق سوريا، ولابد من البناء عليه، وبمعنى أخر لابد من ترتيب أوراق الشمال السوري ضمن المساريين السياسي والعسكري، وتركيا لا تزال تحابي واشنطن وتحاول جذبها إلى المسرح التركي لجهة المخاوف المتعلقة بالملف الكردي، وضمن هذا تقوم الدولة السورية بدراسة كافة السيناريوهات الممكنة للالتفاف على المناورات الأمريكية التركية في سوريا. لذلك، وبصرف النظر عن مناورات تركيا وإمكانية استدارته مجددا نحو الغرب، أو البقاء ضمن نظريات تعطيل الحل السياسي في سوريا، من الممكن أن يكون تعويل دمشق على التفاهمات الروسية التركية كبيرا لجهة الحل السياسي، لكن قوة المنجزات السورية بشقيها السياسي والعسكري، ستفرض نمطا ناظما يجبر تركيا على الالتفاف بشكل ايجابي، وعليه الاسراع في تنفيذ كافة الاتفاقات حيال شمال شرق سوريا. وبالتالي فإن القيادة السورية تقوم ببناء معادلة تحرير الشمال السوري بناء على نظرية الحكمة السياسية والخبرة العسكرية.