لم يعد جديدا أن يشهد الملف السوري، بين فترة وأخرى، تبادلا في التأثر والتأثير بين مؤشرات التسخين الميداني، وسير عجلة التفاهمات الحذرة.
اليوم، يختبر هذا الملف ذروة جديدة من التداخلات المعقدة بين المسارين، والتي يرجح أن تنعكس تطورات ميدانية وشيكة في جبهة إدلب قبل انصرام العام الحالي
مرة أخرى، يستعيد الميدان في إدلب مركزيته في الحدث السوري. كانت الأضواء قد سرقت من ملف إدلب في الشهرين الماضيين لمصلحة ملفين اخرين، أولهما ملف «شرق الفرات»، والثاني ملف «اللجنة الدستورية». لكن سرعان ما عادت إدلب إلى الواجهة، في ظل تسخين تدريجي لخطوط النار فيها، بما يمهد لتقويض التفاهمات الهشة حول المحافظة الشمالية، بل، وبشكل أدق، لتحديث تلك التفاهمات بما يتماشى مع طبيعة المرحلة المقبلة. وإذا كانت الصورة العامة توحي بأن عودة ملف إدلب إلى طاولة البحث ناجم عن عودة ملف شرق الفرات إلى المراوحة في المكان الذي وصل إليه، فإن نظرة معمقة ستكون كفيلة بتظهير صورة مختلفة.
في خلال العام الأخير، اتضح بجلاء وجود ترابط وثيق بين تعامل اللاعبين الفاعلين مع ملف إدلب، وتعاملهم مع ملف شرق الفرات. لا يقتصر الأمر هنا على رغبات أنقرة الحريصة على التمسك بورقة إدلب، وعدم التخلي عنها كليا قبل تغيير معادلات «شرق الفرات»، بل يتعداها إلى رغبات مماثلة، لكن خفية، لدى موسكو. ثبت الطرفان، على عجل، «اتفاق سوتشي» في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي في لحظة ميدانية فارقة، كانت معظم معطياتها تشير إلى مضي الجيش السوري وحلفائه في قضم مزيد من أرياف إدلب بتسارع كبير. لم يطبق «سوتشي» بحذافيره على أرض الواقع، لكنه ظل صالحا للعب دور «مرجعي»، يحتكم اللاعبون إليه لإعادة تحديث خطوط السيطرة الميدانية بين مرحلة وأخرى، وهي خطوط تغيرت كثيرا بين أيلول 2018 وأيلول 2019، من دون أن ينهار «سوتشي». على المقلب الاخر، كان ثمة تلاق لافت في مصالح كل من دمشق وموسكو وأنقرة ، على ضرورة إعادة هندسة مشهد جديد في شرق الفرات. مشهد يضمن تفكيكا تدريجيا لهيمنة شبه مطلقة حظيت بها «قوات سوريا الديمقراطية» على مساحة جغرافية قاربت ثلث مساحة الجغرافيا السورية.
أفلحت طريقة التفاهم «بالتقسيط» في إيجاد مداخل فعلية لتغيير المشهد شرق الفرات، على رغم التراجع الأميركي مرات عدة عن خطوة الانسحاب الكلي. ومنذ منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي حتى اليوم، أسفرت التطورات عن دخول تركي مباشر على خط السيطرة الجغرافية هناك، علاوة على دخول الجيش السوري إلى مناطق عدة ظل غائبا عنها سنوات طويلة، فضلا عن حضور عسكري روسي متزايد بموجب تفاهمات مع «قوات سوريا الديمقراطية»، وأخرى مع أنقرة، وثالثة غير مباشرة مع واشنطن. ولا يغيب عن الذهن أن كل التطورات المذكورة تأتي في ميدان كان حتى الأمس القريب خاضعا للسيطرة الأميركية. وعلى نحو مماثل، تمكن مقاربة الملف السياسي، لاسيما ملف «اللجنة الدستورية»، التي يبدو التوافق على تشكيلها شبيها، بشكل أو باخر، بالتوافق على تفاهم «سوتشي». وعلى رغم تعثر الجولة الثانية من اجتماعات «اللجنة المصغرة»، وعدم تحديد موعد لانعقاد الجولة الثالثة، فإن «الدستورية» تشكل مدخلا مهما يمكن الاعتماد عليه لتظهير التفاهمات السياسية التدريجية، ولو اختبر المسار بين وقت واخر توقفا مؤقتا.
تختبر خطوط النار في جبهة إدلب تسخينا تدريجيا، يبدو مرشحا للازدياد في المرحلة المقبلة
ويمكن القول إن تطورات المشهد السوري في المرحلة المقبلة ستمضي بتناوب محسوب بين ثلاثة مسارات متوازية: أولها ذو صبغة عسكرية طاغية هو مسار إدلب المتضمن في ما يتضمنه «تفاهمات سوتشي»؛ وثانيها تختلط فيه الصبغتان العسكرية والسياسية بنسب متقاربة، وهو مسار شرق الفرات؛ أما الثالث فصبغته الظاهرة سياسية كاملة، وهو مسار «اللجنة الدستورية». ومن المنتظر أن تشكل الجولة المقبلة من جولات «أستانا» (الموعد المبدئي 10 و11 كانون الأول/ ديسمبر) محطة مهمة على طريق هندسة المسارات الثلاثة، وضبط إيقاع التناوب في ما بينها. ويدخل في جملة المعطيات التي سيستند إليها لاعبو «أستانا» في التوافق على ملامح المرحلة المقبلة، ما يحمله اللاعب الروسي في جعبته من تفاهمات مع دمشق، وأيضا ما يحمله اللاعب التركي في جعبته من اللقاء الرباعي مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا، والذي عقد على هامش اجتماعات «حلف شمالي الأطلسي» في لندن، قبل يومين، إضافة إلى ما تفرزه أي اتصالات محتملة بين أنقرة وواشنطن في الفترة التي تفصلنا عن «أستانا»، سواء أكان سلبيا أم إيجابيا.
وسط هذه المعمعة، تختبر خطوط النار في جبهة إدلب تسخينا تدريجيا، يبدو مرشحا للازدياد في المرحلة المقبلة. وقد يلعب التسخين الراهن دورا في تحسين شروط هذا الطرف أو ذاك على طاولات «أستانا»، التي ينتظر أن ترسم فوقها ملامح الصورة الفعلية لحال الميدان في المرحلة المقبلة، إضافة إلى رسم خطوط عريضة لملامح مسار «الدستورية» وتطوراته. ثمة معطيات أخرى يبدو أنها تشكل جزءا من الرسائل غير المعلنة قبل انعقاد «أستانا»، تدور مجرياتها بعيدا عن الضوء، في بعض مناطق «المصالحات»، ولا سيما في الغوطة الشرقية. وتشهد كل من دوما وحرستا مؤشرات على تحركات محتملة ل«خلايا نائمة»، تأتي في صورة كمائن وحوادث اختطاف، ربما تفسر على أنها تلويح «معارض» بإمكانية استنساخ مشهد درعا في الغوطة، عبر نقل عدوى اللااستقرار الأمني.
شهدت منطقة أطمة في ريف إدلب الشمالي مقتل واحد من مدربي جماعة «العصائب الحمر»، التي تعد قوة النخبة في «هيئة تحرير الشام». المدرب المعروف باسم أبي أحمد المهاجر استهدف، يوم الثلاثاء، بغارة شنتها طائرة مسيرة ترجح تبعيتها لما يسمى «التحالف الدولي»، بينما كان برفقته أحد مرافقيه. المهاجر، جزائري الجنسية، يرجح أنه قدم إلى الشمال السوري في عام 2013. وهو لا يتبع بشكل رسمي ل«هيئة تحرير الشام»، بل يعمل معها بصفة «مدرب متعاقد». سبق للمهاجر أن أشرف على دورات تدريبية قتالية لمسلحين تابعين لتنظيمات مختلفة، مثل «حركة أحرار الشام» و«جيش الأحرار». وينتشر هذا النمط من «التعاقدات» في إدلب على وجه الخصوص، ويقوم على اتفاق فصيل ما مع مدرب أو مجموعة مدربين «محترفين» للإشراف على أحد المعسكرات لفترة متفق عليها، مقابل أجر. وليس هذا الاستهداف هو الأول من نوعه، إذ سبق أن استهدف مدربون في مرات سابقة، كان أبرزهم أبو سليمان البيلاروسي، مؤسس جماعة «ملحمة تاكتيكال»، والذي كان بدوره واحدا ممن دربوا «العصائب».