بلا مقدمات نقول : نعم .. يمكننا .. وننوي، ولكن ليس من السهل تثبيت سعر الصرف لا في سورية ولا في غيرها، ولاسيما عندما تكون البلاد معرضة للمخاطر وتعيش حالات شاذة كحالة الحرب الإجرامية المفروضة علينا، التي تخوضها سورية منذ تسع سنوات ضد الإرهاب، حيث استهدف الإرهابيون بأوامر أسيادهم مراكز الإنتاج الأساسية في سورية،
ولاسيما حقول النفط والغاز، والمنشآت الصناعية المنتجة العامة والخاصة، كما عطلت العمليات الإرهابية مساحات واسعة من الأراضي الزراعية فتراجع الإنتاج الزراعي كثيراً، وكان من الطبيعي في أجواء الحرب أن يتعطل النشاط السياحي، إذ لم تعد سورية ذلك المقصد الذي يثير سياح العالم – كما كانوا – للمجيء إليه،
على الرغم من أن سورية وطن الجميع (لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان .. وطنه الأم .. وسوريا ) حسبما قال أول مدير لمتحف اللوفر ” أندريه بارو ” و عالم الآثار الفرنسي، قارئ النصوص المسمارية الأوغاريتية ” شارل فيرلو “
على كل حال تلك العناصر الأربعة ( النفط، والصناعة، والزراعة، والسياحة ) كانت مصادر سورية الأساسية لتأمين القطع الأجنبي، والتي من خلاله تقوم الدولة بتنفيذ برامج تنموية متقدمة، وبفعل الحرب خسرت الكثير من هذه المصادر – إن لم تكن قد خسرتها كلها – خسرت النفط وواردات صادراته، وتغطيته للاستهلاك المحلي وصارت مضطرة لدفع مبالغ كبيرة بالقطع الأجنبي من أجل استيراده،
وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الصناعات، ولبعض الزراعات ولاسيما القمح الذي كنا نصدره، اليوم نستورده بفاتورة عالية ومرهقة بالقطع، أما السياحة فخسرنا الكثير من وارداتها بالقطع أيضاً.
لعل هذه أبرز النواحي التي خفضت وارداتنا من العملات الصعبة، وحكاية سعر الصرف هي كلها عرض وطلب، وأمام هذه الظروف كان من الطبيعي أن يرتفع الطلب على القطع الأجنبي لتلبية احتياجاتنا من الخارج، غير أن الطلب الشديد على العملات الأجنبية في سورية لا يُعبر تماماً عن حجم الاحتياجات الحقيقية لها، حتى يرتفع سعر صرفها وتنخفض قيمة الليرة إلى هذا الحد كله، فللمضاربات دور كبير في زيادة الفجوة بين السعرين،
اقرأ المزيد في قسم الاخبار
كما أن للأحداث الجارية في لبنان اليوم دور كبير على الأرجح في تقليص العرض الذي كان ممكناً للقطع الأجنبي ليزداد الطلب عليه أكثر فأكثر، إذ يتضح للجميع أن رجال الأعمال السوريين الذين يودعون عملاتهم الأجنبية في البنوك اللبنانية لم يعودوا قادرين في هذه الأثناء على سحبها ولا حتى على سحب جزء منها، إلا بما لا يكاد يفيدُ شيئاً، وصارت هذه الحكاية معروفة.
على كل حال هي عواصف لا بد وأن تعبر عاجلاً أم آجلاً، والباعث للأمل أن الحكومة السورية – رغم كل القيل والقال – ماضية وبقوة بإجراءاتها الاسعافية والاستراتيجية، التي تصب بالنهاية في تحسين الأوضاع وعودة سعر الصرف إلى مكانه الموضوعي والثابت أيضاً.
الإجراءات الإسعافية
يمكننا القول بدايةً: إن زيادة الرواتب والأجور الأخيرة تأتي في الإطار الإسعافي، فهي على الأقل تساهم في زيادة تداول الليرة، فمن مظاهر وعناصر قوة العملة زيادة تداولها، كما أن زيادة الرواتب تؤدي إلى تحفيز الإنتاج لأن الطلب على المنتجات سيزداد عبر ضخ الكتلة النقدية الكبيرة للزيادة والبالغة / 500 / مليار ليرة إضافية سنوياً في السوق.
كما أن قرار وزارة الاقتصاد الأخير بتجميد 25% من قيمة إجازة الاستيراد بالليرة السورية إن كان المستورد مودعاً، و15% من قيمة الإجازة إن لم يكن مودعاً، وذلك لمدة شهر فقط، هو إجراء إسعافي، وهذا من شأنه – حتى وإن شكل إزعاجاً عند بعض التجار – أن يضع الليرة في موضع الطلب، وقد نصل إلى مرحلة يزداد فيها هذا الطلب فتستعيد الليرة عافيتها ويتحسن وضعها.
وتعتبر ملاحقة المضاربين بالعملات الأجنبية بمواجهة الليرة في السوق المالية السورية السوداء، أحد أهم الإجراءات الاسعافية، ولكن هنا ما يزال يؤخذ على الجهات المختصة بالتراخي حيال هذه الملاحقات، أو ربما تكون المعالجة تتم بطرقٍ غير معلنة.
ومن الإجراءات الإسعافية أيضاً تلك التي أعلن عنها وزير المالية الدكتور مأمون حمدان بشكلٍ ملفت مؤخراً عندما قال : (أن هناك إجراءات حكومية كفيلة بضبط الأسواق وضرب المهربين والمحتكرين بيد من حديد، والتشدد بالرقابة على أسعار السلع، وخاصة الاستهلاكية، التي تؤثر على أصحاب الدخل المحدود، مبيناً أن مجلس الوزراء وجه بتوفير التمويل اللازم لمؤسسة التجارة الخارجية بهدف تمكينها من استيراد مختلف السلع الضرورية في السوق المحلية لتلبية احتياجات المواطنين )
وبالفعل فإن هذه المناحي تأتي في إطار الإجراءات الاسعافية التي من شأنها تثبيت سعر الصرف، وتحسين وضع الليرة ولاسيما قضية مكافحة التهريب، حيث يقوم المهربون بشكل طبيعي باستنزاف السوق من القطع الأجنبي، وتشكيل حالة ضغط عليه من خلال زيادة الطلب، فبالنهاية المهرب يحتاج إلى قطع أجنبي من أجل شراء وشحن البضائع المهربة.
أما المحتكرون فإنهم يولدون حالة طلب شديد على المواد المحتكرة، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها، فيضربون بالليرة بشكلٍ غير مباشر، وتبدو كأنها انخفضت قيمتها وقدرتها الشرائية، وفي هاتين الحالتين ( التهريب والاحتكار ) نحتاج بالفعل إلى الضرب بيدٍ من حديد، ولكن على الرغم من التأييد الجماهيري الذي كان واضحاً من أجل اعتماد مبدأ الضرب بيدٍ من حديد فعلاً، إلا أن شيئاً من هذا القبيل لم يطفُ على السطح، إلا في الأيام القليلة الماضية، ولذلك نعتقد بأن الجهات المختصة ما تزال تمتلك العديد من الأوراق التي يمكن من خلالها تعظيم مفاعيل الحلول الإسعافية أكثر.
الاجراءات الاستراتيجية
إن أهم الاجراءات الاستراتيجية التي نستطيع من خلالها الوصول إلى تخفيض سعر صرف العملات الأجنبية ورفع سوية القدرة الشرائية لليرة، وتثبيت السعر فعلياً بشكله الحقيقي والعادل، هو المُضي في تعزيز العملية الإنتاجية، وإعادة إحياء المدمر من المصانع والمعامل لتزدهر عملية الإنتاج، وتزداد السلع المحلية الصنع، وتسويقها في الداخل، والأكثر جدوى هو تصديرها إلى الخارج.
استعادة العملية الانتاجية
وفي الواقع فإن جهوداً كبيرة تُبذل لإعادة تلك المصانع والشركات إلى العمل، فهناك أكثر من 120 ألف مصنع ومنشأة صناعية دمرها الإرهابيون، أو فككوها وباعوها في الأسواق التركية بأوامر أردوغانية .
ولم يكن مفيداً أن نندب حظنا بعد تحرير حلب، ومدينتها الصناعية في الشيخ نجار، والغوطة الشرقية وكامل ريف دمشق، حيث تتمركز أغلب تلك المنشآت المدمرة والمتضررة، ونكتفي بالوقوف على أطلالها، لأن الأهم هو إنقاذها وتلافي ما حصل والعمل على إنعاشها ودوران عجلتها الإنتاجية، لمحاولة سد ذلك النقص الهائل في المعادلة الإنتاجية السورية، حيث قلت بعض السلع وانعدم بعضها الآخر، فازدادت الحاجة للاستيراد،
ما يعني ازدياد الطلب على القطع الأجنبي، وبالتالي ارتفاع سعره وانخفاض القيمة الشرائية لليرة، وفي الواقع هذا ما حصل فعلاً، حيث أبدت الحكومة السورية اهتماماً ملحوظاً بإعادة المصانع المنكوبة إلى العملية الإنتاجية، وقدمت من أجل ذلك المزيد من الدعم والتسهيلات للصناعيين، كي يتمكنوا من إعادة دوران عجلة إنتاجهم، وقد تمكنوا بالفعل، فإلى الآن يُحكى عن إعادة نحو مئة ألف مصنعٍ ومعملٍ للعمل والإنتاج من مختلف القطاعات الصناعية، وحل الإنتاج الوطني محل العديد من السلع والمنتجات التي كنا نضطر لاستيرادها، وقد خفف هذا الأمر بطبيعة الحال من وطأة الضغط على طلب القطع الأجنبي،في حين تستمر وتيرة استعادة ما تبقى من المصانع المدمرة والمنهوبة والمتضررة.
مكافحة التهريب
يُشكل التهريب عامل ضغط كبير على طلب القطع الأجنبي، فحتى يتمكن المهربون من شحن مهرباتهم فإنهم يحتاجون إلى كميات كبيرة من القطع الأجنبي، ومن أين سيأتون بالقطع ..؟ من السوق طبعاً، لأن بضائعهم مهربة ومن غير الوارد تمويلها من البنك المركزي، فيحصل طلب شديد على القطع الأجنبي ( الدولار واليورو وغيرهما من العملات الأجنبية ) فترتفع أسعار هذه العملات بمقابل الليرة،
وهنا يكون للمهربين دوران في تخريب الاقتصاد الوطني، الدور الأول في تخفيض القيمة الشرائية لليرة، وبالتالي ارتفاع الأسعار علينا جميعاً،
والدور الثاني في حرمان خزينة الدولة من تحصيل الضرائب والرسوم عن البضائع المهربة، وهي تكون مستحقة لكل البضائع التي تدخل من الخارج إلى الداخل السوري، ويبدو أن حملة مكافحة التهريب التي أُعلن عنها منذ أشهر لم تُفلح كما قُدر لها، حيث تراخت هذه الحملة أمام المكاسب التي تحققها منظومة الفساد الجمركية عند انتعاش التهريب، وليس من السهل – على ما يبدو – تفكيك هذه المنظومة، فهي تحتاج إلى وقتٍ غير قليل، ومن هنا جاءت عملية مكافحة التهريب في الإطار الاستراتيجي، لأنها بالفعل تحتاج إلى خطة دقيقة ومدروسة ومربوطة ببرنامج زمني قد لا يكون قصيراً.
المشاريع الصغيرة والمتوسطة
وهنا فصلنا المشاريع الصغيرة والمتوسطة عن استعادة العملية الانتاجية، نظراً لأهمية التركيز على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لأنها قادرة على إنقاذ الاقتصاد بشكلٍ مدهش، وهذا الأمر ممكن جداً إذا امتلكنا الإرادة والتصميم على المضي بهذه المشاريع وإفساح المجال لها للعبور باتجاه ميادين التنفيذ، فرواد الأعمال كُثر، وكل واحدٍ منهم ينتظر الفرصة التي تؤهله لأن يباشر في بناء مشروع حياته الذي قضى السنين بانتظاره، ولكنه لا يستطيع ذلك لعدم قدرته على التمويل.
بنوكنا – والحمد لله – متخمة بالأموال، وقد صارت عبئاً كبيراً عليها، لأن الودائع التي ستقوم البنوك بتخديمها بالفوائد أكبر بكثير من حجم القروض الممنوحة وهي شبه متوقفة أصلاً، فالإحجام كبير عنها أمام الشروط القاسية لمنحها، وهذا يعني أن الخسائر تتراكم على هذه البنوك، ولم تفدها كثيراً حالة الثقة التي تتمتع بها فعلاً، لأن هذه الثقة غير كافية إن لم يجرِ استثمارها على شكل قروض، ولكن الخوف والحذر يلف البنوك بعد عاصفة القروض المتعثرة التي ما يزال ملفها مفتوحاً وساخناً .. فما الحل ..؟
الحل المأمول في تقديم التمويل الكافي والمُيسر للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، تمثل أخيراً بإطلاق وتفعيل مؤسسة ضمان مخاطر القروض، وهي الأمل الأكبر فعلياً كي تأخذ هذه المشاريع دورها الفعال، والتي إن أخذته فسوف تكون قادرةً على قلب الأوضاع الاقتصادية وتحسينها وإنعاشها بشكلٍ كبير،
وهناك تجارب عديدة في العالم تؤكد ذلك، كتجربة الصين حيث اعتمد اقتصادها في جانب واسعٍ منه على مثل هذه المشاريع، كما أن الاقتصاد الفيتنامي اعتمد كله وبنسبة 100% على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فبطاريات ( لونغ ) مثلاً الصغيرة، والتي تجتاح السوق السورية في هذه الأيام، ويجري استخدامها في أكثر الأحيان من أجل تمديد الليدات، تخيلوا أن هذه البطاريات المنتشرة عندنا على نطاق واسع وفي مختلف المناطق هي بالأساس من صناعة إحدى الشركات المتوسطة والصغيرة في فيتنام ..؟!
على كل حال الآفاق ستكون مفتوحة وغنية أمام الاقتصاد الوطني في حال ابتدأت الشركات الصغيرة والمتوسطة بالإقلاع والانتشار، والأمل هنا بات قوياً .. وقوياً جداً، ويمكننا أن نتوقع كيف يمكن لهذه الشركات أن تُعطي العملية الإنتاجية زخماً كبيراً، فنستغني بعد حين عن الكثير من المستوردات، ونجد أننا أمام فرصة كبيرة لتصدير المزيد من هذا الإنتاج، الأمر الذي – بالنهاية – يصبُ في زيادة تحصيل القطع الأجنبي وزيادة عرضه، وبالتالي انخفاض سعره وارتفاع سعر صرف الليرة.
أخيراً
بمثل هذه الطرق، وبمثل هذه الإجراءات الاسعافية والاستراتيجية، والتي يأتي في سياقها أيضاً إنعاش الزراعة وزيادة إنتاج المحاصيل، الأمر الذي يستحضر تلقائياً الانتعاش السياحي، يمكننا بالفعل عندها تخفيض سعر صرف الدولار وبقية العملات الأجنبية، وزيادة القدرة الشرائية لليرة السورية، وتنقلب الأمور من حالة الضعف أو الركود التي يعيشها الاقتصاد السوري حالياً إلى حالة القوة والتصدي والانتعاش وفرض الإرادة .. وبالتالي اتخاذ قرار تثبيت سعر الصرف .. وبمنتهى السلاسة والثقة والحزم أيضاً …