لم يطفئ اردوغان نار الحرب التي اشعلها في الشمال السوري، عملية عسكرية تركية شمال سوريا جعلت المشهد الميداني والسياسي يتشعب اكثر، فبين رماد الحريق بحث في حجم الاضرار، تنمو سريعا تصريحات سياسية من قادة اتراك، وتتكشف جذورها ومراميها بمجرد صدورها من رأس الهرم في السلطة التركية، وصولا الى وزير الخارجية في ذاك البلد، والتي قد لا تتجاوز التسويق السياسي، وكسب المزيد من الوقت.
باختصار، أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن بلاده لن تسحب قواتها من سوريا إلا بعد أن يطلب ذلك الشعب السوري "شاكرا"، وذلك خلال اجتماع للمجلس الاستشاري لـ"حزب العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، عقد في مدينة اسطنبول، ولم يلتفت الرئيس التركي الى تصريح وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو الذي جاء قبل ساعات، خلال مشاركته في أعمال منتدى "الحوار المتوسطي" في روما انه "لا يمكننا مغادرة سوريا قبل تحقيق تسوية سياسية لأزمتها ولا فرق بين "داعش" و"النصرة".
ساعات قليلة تفصل ما قيل من القادة الاتراك، لتعكس تلك التصريحات الأوضاع السياسية العامة والأزمة الاقتصادية الاجتماعية المالية الخطيرة التي يعيشها الاتراك، ويفتح الباب واسعا امام الاهداف والاسباب لتلك التصريحات، الجميع يعرف ان التسوية السياسية للأزمة السورية بهذا الشكل باتت مستحيلة، وبالطبع كون التركي طرفا فيها، وفي المقلب الاخر، عندما نتساءل في تصريح اردوغان، من هم الشعب السوري الذي يجب ان يطلب منه ذلك؟ نتيقن للحظة انه يقصد الوفد المعطل في اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، والتابع له، هذا ما يعتبره النظام التركي انه الشعب السوري، من المؤكد لا نتوقع من القيادة التركية ان تطلب رأي مجلس الشعب السوري، والمؤسسات السيادية المنتخبة بشكل شرعي ودستوري، كونه لا يعترف بها أساسا، والواضح انه يقصد بالشعب السوري المجموعات المسلحة التي ينظم عملها ويسلحها في شمال سورية والجزيرة السورية، ويعتقد جازما ان ذلك الشعب هو تلك المجموعات المسلحة التي تتواجد في ادلب، وهذا هو جوهر الحكاية، فالتصريحات التركية تلك تندرج ضمن نظرية الغموض البناء، فاردوغان لم يفسر فكرة الشعب السوري في تصريحه، ولم يوضح من هو الشعب السوري بالنسبة له، هل هو من تمثله المؤسسات الرسمية ومجلس الشعب، ام من يقاتل تحت رايته في شرق الفرات.
السؤال الثاني الذي ينبغي طرحه بعد تلك التصريحات التركية، من يسوق نفسه بهذه الطريقة؟ كيف يفسر تصرفاته في الشمال الشرقي السوري؟ وهو كما تراه دمشق، قوة احتلال واغتصاب الأرض والثروات، وامعان في تهجير السكان وتوطين غرباء مكانهم في أبشع عملية تغيير ديموغرافي في المنطقة، ما يفسر بشكل واضح مسلكية القيادة التركية في الغموض البناء، الذي تعتمده حيال الملف السوري والذي يترجم بشكل فعلي التناقض الارادي في تصريحات المسؤولين الاتراك، وبالذات فيما يخص انهاء الحرب المفروضة على سورية.
في الواقع وعلى الارض، ان فكرة المناطق الآمنة تخفي في طياتها مشاريع تقسيم وتفتيت وتهديد لوحدة سوريا، فيما توجه العملية العسكرية ضربة قاصمة للعملية السياسية وتفقد تركيا بشكل قاطع موقع الضامن في عملية آستانا، فكيف لتركيا التي لم تفِ بالتزاماتها تجاه ادلب، بل وعلى العكس من ذلك انخرطت بشكل فعلي ومباشر في دعم الارهابيين، وما يتفق عليه الجميع في دمشق ان تركيا أسرفت في عدوانها ودخلت مرحلة جديدة من تنفيذ هذه الاعتداءات التي باتت تهدد جدياً وحدة الأراضي السورية ومستقبل الأرض المحتلة ومسارات العملية السياسية المعول عليها لإنهاء الأزمة السورية، وهي اللجنة الدستورية، التي تشكل انطلاقة حقيقية لبلورة فكرة الحل السياسي في البلاد.
ان القارئ السياسي يدرك تماما ان ما قاله اردوغان في ذلك الاجتماع لا يتعدى تبرير بقائه في سورية امام جمهوره، بعد تدهور شعبيته بشكل واضح، وما يجري على الارض بات واضحا لاصدقائه قبل اعدائه، بعد ان زج بكامل اوراقه في الميدان السوري، ولم ينسَ العبث بالجغرافيا، ما جعله يوقع الفصل النهائي من دوره في عمليتي آستانة وسوتشي، ويرى مراقبون ان اردوغان بعد عدوانه على الشمال السوري، والمراوغة الواضحة حول تطبيق تفاهمات استانا وسوتشي، كمن يطلق الرصاصة الأخيرة على الثقة الممنوحة له من الشركاء، في اثبات لا يدع مجالا للشك، ان ما يقوم به من مشاركة فعلية بالحرب المفروضة على سورية، هو ترجمة واضحة لمطالب الولايات المتحدة الامريكية.
ان تصريحات اردوغان من ناحية المضمون تحمل مغالطة كبيرة، عبر محاولة مكشوفة لتبرير العدوان على سورية، فربط الاحتلال التركي لمناطق في الشمال السوري باتفاق اضنة، لا يتعدى كونه كذبة مفضوحة، وذر للرماد في العيون، فالاتفاق ينص حرفياً على: "إن سوريا، وعلى أساس مبدأ المعاملة بالمثل، أكدت، بأنها لن تسمح بأي نشاط ينطلق من أراضيها بهدف الإضرار بأمن واستقرار تركيا"، ولذلك نرى ان تركيا انتهكت على مدى اكثر من ثمان سنوات كل ما ورد حول المعاملة بالمثل، فقدمت ولازالت، الدعم العسكري واللوجستي للتنظيمات الارهابية وسمحت بانطلاقها من اراضيها باتجاه سورية، فيكون الاتراك وبما لا يقبل الشك هم المنتهكون السابقون والحاليون لاتفاق اضنة الذي ينص اساساً على ان التوغل التركي لن يكون الا بعمق 5 كم كحد اقصى. اما عن الدافع لمثل هذه التصريحات التركية فيندرج في اطارين؛ الاول هو سعي اردوغان لتبرير عدوانه امام الضغوط الدولية المتصاعدة، وهو أمر لم يعد خافياً على احد حتى خلال قمة الناتو. اما الثاني فيتعلق بمحاولة اردوغان رفع السقوف التفاوضية فيما يتعلق بسعي تركيا لرفع سوية اوراقها التفاوضية خلال اجتماع استانا المقبل في مواجهة روسيا وحلف مكافحة الارهاب، لا سيما انه يريد ان يصرف الضغوط السياسية في استانا باتجاه دعم موقف ما يطلق عليه وفد المعارضة في اطار اعمال اللجنة الدستورية في جنيف، والتي ظهر خلال اجتماعها الاخير صلابة موقف الوفد الوطني السوري.