بالرغم من ان الوضع في المنطقة دقيق وخطير، والعالم كله يترقب التطورات المتلاحقة بعد الجريمة الامريكية بحق القائدين الشهيدين الفريق قاسم سليماني وابو مهدي المهندس ورفاقهما الشهداء، عاد ملف ادلب السورية الى واجهة الاحداث من باب الدول الضامنة لاتفاق استانا، حيث لم يمض يوم واحد على لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره التركي رجب طيب إردوغان، في اسطنبول، حتى سارعت وزارة الدفاع الروسية لاعلان هدنة في ادلب، بعد التفاهم مع الجانب التركي.
المسافة الزمنية الفاصلة بين إنجازات الجيش السوري في ريف إدلب الجنوبي والإعلان عن الهدنة، كانت مليئة بالمطالبات التركية المتكررة بوقف إطلاق النار في المنطقة، وكان آخرها تلك التي رفعها الوفد التركي الذي أرسلته أنقرة إلى موسكو في نهاية الشهر الماضي، وترك الأمر حتى جاء اللقاء بين الرئيسين في تركيا، وعندها طالب أردوغان مجددا بالهدنة، مع المطالبة للمجموعات المسلحة في تلك المنطقة بالالتزام بالهدنة والتخلي عن السلاح والسير نحو التسوية السلمية للاوضاع في مناطق تواجدهم.
ان وقف إطلاق النار المعلن، جاء بعد الانجازات العسكرية اللافتة التي حققها الجيش السوري وبقفزات طويلة، والتي لامست فيها وحدات الجيش اسوار مدينة معرة النعمان، والواقعة على الطريق الدولي الواصل بين حلب ودمشق، واستطاع بهذه العملية العسكرية تحرير نحو 40 قرية في شرق ادلب، بمساحة 320 كلم مربع، مستندا على حقه في تطبيق بنود "اتفاق سوتشي" التي تنص على إخراج الإرهابيين بالقوة من المنطقة في حال لم يخرجهم الضامن التركي، بعد انتظار دام أكثر من عام، ولم يحرك التركي فيها ساكنا، بل على العكس زاد من دعمه للمجموعات في تلك المنطقة، ومن ثم جاءت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى دمشق، والتي حملت رسائل في كل الاتجاهات، ومن أهمها رسائل لواشنطن، بأن محور مواجهة امريكا، له الكلمة الان.
ومن الرسائل التي حملها بوتين، كانت للدول الغربية، ويتضمن محتوى هذه الرسالة بأن سوريا عادت، آمنة مستقرة، ما يطمئن جميع من يفكر في المشاركة في إعادة إعمار البلاد. حاملا معه مبادرة فيها شق يتعلق بالشمال السوري، ما اوضح ان العلاقة الروسية مع سوريا استراتيجية، والدليل ان الرئيس الروسي حمل المبادرة التي تخص ادلب والشمال إلى الرئيس السوري بشار الأسد قبل عرضها على أردوغان، وهذا يعني أن بوتين تدخل شخصيا هذه المرة في وضع اللمسات لهذا الاتفاق، وهذا يراه المراقبون في دمشق انها الفرصة الاخيرة لتركيا، التي تظن ان الوقت مفتوح امامها الى ما لا نهاية، وانها تلعب على حبال السياسة والتسويف، لتأخير تطبيق تفاهمات آستانا وسوتشي، ومازالت تستثمر في بورصة الجماعات المسلحة، وعندما شعرت بالخطر، كان نداء الاستغاثة لوقف اطلاق النار.
إن جميع المعطيات تؤكد ان الميدان العسكري مازال يتحكم بمفاتيح الابواب السياسية، وان رسم الخرائط مازالت تعتمد على آخر مكان وصلت له وحدات الجيش السوري، الامر الذي يستنفر الدول الداعمة للارهاب، لاقتراب انتهاء الدور الوظيفي للمجموعات المسلحة، والتي بدأت بالفعل تتآكل بفعل اقتراب الجيش السوري من مدينة معرة النعمان، وبدأت عمليات تهريب المسلحين من معرة النعمان الى تركيا عبر مبالغ طائلة، وزاد الطين بلة بالنسبة لها، التحضير لنقل مسلحي "النصرة" نحو الحدود الشمالية من محافظة ادلب والملاصقة للحدود التركية، ما رفع من منسوب التخوين لدى تلك الجماعات، وهذا سيؤدي بشكل حتمي الى نهاية المشروع الذي خططت له دول واجهزة استخبارات عدة، لذلك كانت الهرولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد انهيار الجبهات امام تقدم الجيش السريع والحاسم في ريف ادلب الجنوبي.
إن القراءة الهادئة لكل الهدن السابقة، وقرارات وقف اطلاق النار، تؤكد أنها لن تطول كثيراً، وبالذات مع صعود سريع لدور مجموعات ارهابية كتنظيم "حراس الدين" الذي يحضر نفسه كي يرث "جبهة النصرة"، فالهدنة الهشة لعدة اسباب، أهمها ان التركي لم يعد يستطيع ضبط "جبهة النصرة"، او حتى "حراس الدين"، وهذه المجموعة التي تم تأسيسها بأموال مخابرات احدى الدول الخليجية، باتت تستقطب قادة "النصرة" الرافضين لوقف اطلاق النار، وأغلبهم من جنسيات مختلفة، ما يشكل لغما حقيقيا سيفجر اي هدنة او اتفاق تسوية في داخل ادلب، فالتقارير تشير الى أن عدة تنظيمات ومنها "حراس الدين" ستكون الحامل الأكبر للعناصر المنشقة عن "جبهة النصرة" كما فعلت مع عناصر "داعش"، الامر الذي يجعل الهدنة هشة وقابلة للسقوط بأي لحظة.