في لغة السياسة كل شيء مباح ما دام الهدف منها الحفاظ على مصلحة البلاد العليا، وبالتالي فإن المعارك السياسية تشبه الرقصة الثنائية بين شخصين لكنها لا تعني بالضرورة أنها رقصة حب وغرام، فهي في الباطن محملة بأمور كثيرة، على عكس المعركة العسكرية التي لا مجال فيها إلا لإعلان الظاهر والعمل بموجبه حتى تحقيق النصر.
رقصة أردوغان الافعوانية ليست إلا نتاج خبرة عقود للفكر الإخواني الذي يحرك الدين باتجاه السياسة لتحقيق مصلحة شخصية بصبغة حزبية وتحت غطاء الدولة للشرعنةكما حال تركيا وقطر حاليا، لكنه ابعد ما يمكن عن الدين.
أردوغان نجح خلال السنوات الماضية في الرقص مع الروسي ومع الأميركي «فرادى» برسم مصلحة مشتركة تقوم على وجوده كطرف رئيسي بالمنطقة، يتم الاتفاق معه لا دونه، حتى تمكن من استمالة الأميركي بما يخص شرق الفرات وعقد مع الروسي بالشكل اتفاقيات لكنها بالمضمون كسب للوقت باستمرار لإنهاك الدولة السورية عبر معركة مفتوحة فواصلها الزمنية أكاذيب تحت مسمى «وقف إطلاق النار».
عمليات «وقف لإطلاق النار» سعى من خلالها أردوغان، في كل مرة، لإيقاف الزخم المرافق مع تقدم قوات الجيش العربي السوري والإبطاء قدر الإمكان من حركتها ومن انهيار مجموعاته الإرهابية التي وصفها بـ«الحلفاء» لكنها ليست إلا مجموعات من المرتزقة تتحرك كيفما شاء ومتى شاء.
العامل الزمني مهم في خلق المستجدات الميدانية، كما أنها تسهم في بقاء إدلب وشمال حلب خزانين دائمين للمرتزقة يستفاد منهم ليس فقط داخل الأراضي السورية وإنما في ليبيا وممكن أيضاً أن نجدهم ذات يوم في دولة أخرى يرى فيها العثماني الإخواني مصلحة له وبالتالي «حظيرة» لـ«جيش» من المرتزقة يتم استعمالهم بشكل دائم ومستمر.
خلال الأيام الماضية شاهدنا اكتساح الجيش العربي السوري لمناطق سيطرة التنظيمات الإرهابية في ريف إدلب بالتزامن مع تقدم كبير لقواته في ريف حلب الجنوبي وسط انهيار كبير في صفوف الإرهابيين، ما لبثت أن استقدمت تركيا تعزيزات وبدأت بإنشاء نقاط جديدة لم تكن ضمن الاتفاقيات مع الروسي في محاولة لمنع الجيش السوري من استعادة المزيد من الأراضي.
تعرضت هذه النقاط لقصف من قوات الجيش العربي السوري التي كانت تلاحق فلول الإرهابيين في المنطقة ما أدى لمقتل 8 جنود أتراك وجرح آخرين، إثر ذلك جن جنون العثماني وبدأ بتوزيع التهديدات يمينا وشمالا بعضها يتعلق بقوات الجيش السوري وأخرى موجهة بشكل مباشر للروسي عندما قال: «عندما يتعرض جنودنا أو حلفاؤنا لأي هجوم، فإننا سنرد بشكل مباشر ودون سابق إنذار وبغض النظر عن الطرف المنفذ للهجوم».
التهديد المباشر لروسيا لم يقف عند هذا الأمر حيث تناقلت وسائل إعلام تركية عن أردوغان قوله: «سننصب منظومة صواريخ «حصار إيه» على الحدود مع سورية»، بعد ساعات فقط من حديث وزارة الدفاع الروسية بأن «سلاح الطيران الروسي يسيطر بشكل كامل على الأجواء في محافظة إدلب».
كما يجب أن نتذكر ما قاله رئيس النظام التركي خلال زيارته، الإثنين الماضي، لأوكرانيا بأن أنقرة لم ولن تعترف بـ«ضم» روسيا لشبه جزيرة القرم وأن بلاده «تتابع عن كثب أوضاع أتراك القرم»، هذا التصريح الذي صدر في وقت أعلنت فيه روسيا دعمها للجيش السوري في عملياته في محافظة إدلب التي يسيطر عليها تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي.
لمن يطرح السؤال عن توقيت هذا التشنج التركي الجديد وأسبابه فالجواب في ليبيا، هناك المئات إن لم نقل الآلاف من الإرهابيين المرتزقة الذين تم نقلهم من إدلب وشمال حلب عبر تركيا إلى ليبيا للقتال مع قوات فايز السراج، وبالتالي يظهر جليا أن عملية نقلهم جاءت بعد ضمانات لهم بأن النظام التركي سيمنع أي تقدم للجيش السوري في إدلب بحجة أن ذلك سيهدد «أمن تركيا» ما يسمح له رفع سقف التعاطي مع الروسي، هذا الأمر غير ممكن في ليبيا للبعد الجغرافي.
خلاصة ذلك، أن العثماني الإخواني قد يسعى فعلياً لإحداث صدام مباشر مع الجيش العربي السوري لإظهار وجوده الميداني في رسالة مباشرة للروسي مفادها «هل ستقفون ضدنا؟!» وهنا قد يلجأ الأخير إلى قرارات من الممكن أن تكون شبيهة لما سبق من إعلان جديد لـ«وقف إطلاق النار».
كل ما سبق هو بمثابة رقصة بين العثماني والروسي، لكنها رقصة حاصلة على نغمات أسلحة الجيش العربي السوري وخطوات رجاله الذين يتسابقون للنصر غير آبهين بأي قرار عدواني تركي، حيث الأرض والسماء تعانق أمجادهم هناك، وتجربة حصار الجيش للنقاط التركية قد تتكرر لكن ربما بسيناريوهات أخرى، فمن دخل الحدود أصبح هدفا سهلا قد تحرقه النار في أي وقت، و«حسم معركة إدلب هو الأساس لإنهاء الفوضى والإرهاب في كل المناطق في سورية»، كما قال الرئيس بشار الأسد أثناء زيارته لقوات الجيش المرابطة في إدلب مؤخراً.