علّ جريمة الاغتيال التي ارتكبها ترامب بحق كوكبة من قادة المقاومة تأتي له بما لم يكن يحتسب على الإطلاق، وعلّ نتائج هذا الحدث الجلل ستمتد على مدى سنوات وستكون الفتيل الذي يسارع في تغيير العالم إلى ما يشتهي البعض وما لم يكن يشتهي آخرون أبداً.
لقد أصبح متفقاً عليه أن الحرب على سورية قد غيرت الواقع الإقليمي والدولي وذلك من خلال ولادة محوري المقاومة ومكافحة الإرهاب، وأيضاً من خلال اشتداد عود تحالفات في منظمة البريكس وشنغهاي تقودها الصين وروسيا وتقف بخطوات محسوبة في وجه هيمنة القطب الغربي الواحد والتي بسطت سلطتها على العالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، ولكنّ ارتدادات الحدث الجلل في 3 كانون الثاني قد وحدت العالم بطريقة ما بحيث نلحظ نتائج وتفاعلات هذا الحدث في الدولة التي ارتكبته وفي الدول التي وقع العدوان عليها وفي دول أخرى كثيرة في العالم عبّرت عن مواقفها في الوقت الذي التزمت به الصمت في أحداث أخرى كبيرة من الشدّ والجذب وبين الشرق والغرب.
لا شك أن الردّ الإيراني بقصف قواعد أميركية في العراق مهم جداً لأكثر من سبب: أولاً لأنها المرة الأولى التي تتجرأ فيها دولة على استهداف قاعدة أميركية ما كسر هيبة الولايات المتحدة.
وثانياً لأن الدول التي تعتقد أن حماية الولايات المتحدة لها تنقذها من أي خطر مصيري لابدّ وأن تعيد التفكير مرة ثانية وتعيد حساباتها الإقليمية والدولية بما يتناسب مع الواقع الجديد.
وثالثاً لأن تفاعلات الحدث على مستوى الكونغرس الأميركي والمؤسسات الأميركية والإعلام والشعب الأميركي قد تجاوزت أي تفاعلات سابقة لأي حروب خاضتها الولايات المتحدة.
كما أن ردود الأفعال في أوروبا وإفريقيا وآسيا سواء من تأبين للشهداء أو من مواقف صدرت عن حكومات ومسؤولي هذه البلدان جعل من هذا الحدث علامة فارقة في بداية حقبة جديدة، وليس أقل شأناً في هذه العلامة الفارقة تصويت البرلمان العراقي بإخراج القوات الأميركية والأجنبية كلها من العراق وزيارة سفير الصين لرئيس وزارة تصريف الأعمال عادل عبد المهدي وعرضه عليه مساعدة الصين في الإمداد العسكري وتأمين الوسائل لحفظ أمن العراق، وعلينا أن نتذكر هنا أن المناورات البحرية التي قامت بها الصين وروسيا وإيران قبل فترة وجيزة من اغتيال الشهداء كان تعبيراً عن تعاضد هذه القوى في وجه الهيمنة الأميركية والتي ما برحت تحاول بسط هيمنتها وسيطرتها على المضائق البحرية؛ إذ إن الصين تريد ضمان أمن الشاطئ الشرقي لبحر العرب، لأن الولايات المتحدة تتحكم بالشاطئ الغربي، ولا تريد أن تجازف بإمكانية إغلاق طرق إمداد النفط إليها القادمة من إيران والعراق، كما أن إيران تريد أن تكون جزءاً من تحالف قوي يساعدها في الوقوف في وجه العقوبات والاعتداءات والهيمنة الأمريكية.
ولكنّ الرد العراقي والرد الإيراني على قوتهما لا يشكلان سوى أول الغيث لأن ارتدادات الحدث خرجت عن إرادة الراغبين بالفعل ودخلت في آليات انتقال العالم، والتي كانت على السكة أصلاً، من عالم القطب الغربي الواحد إلى عالم أممي متعدد الأقطاب أو متعدد التحالفات؛ وبهذا فإن نتائجها ستكون أكبر من المتوقع وأكبر من نتائج الحدث على أهميته، فالولايات المتحدة التي حاولت منذ نشأتها أن تعيد صياغة العالم عبر الحروب على شعوب العالم كلها خسرت هذه المرة خسارة كبرى باعتبارها وجهت الضربة القاضية لذاتها كأنموذج يحتذى في «الديمقراطية» وصون «حقوق الإنسان» وغادرت الساحة وضمائر كلّ المهتمين كقوة ونظام يجب الاقتداء به، وفتح الأميركيون أنفسهم من مسؤولين وكتّاب وإعلاميين ورقة المحاسبة مطالبين بتغيير قواعد السلوك العدواني الأميركي التي لا تنسجم حتى مع دستورهم وقوانينهم ناهيك عن القانون الدولي والشرعية الدولية.
أما الصين والتي بدأت مبادرة «حزام واحد وطريق واحد» لتخلق شبكة تنموية في العشرات من دول العالم على أساس الندية والحوار والعيش المشترك فقد خطت خطوة مهمة في تقديم نفسها كمورد للسلاح وضامن لأمن بلدان كانت إلى حدّ الآن تقع تحت السيطرة الأميركية حصراً، كما أنها خطت خطوات جريئة في تأمين أمن الطاقة وتأمين بلدان مثل إيران تقع عليها أقسى العقوبات الأميركية، وفي هذه الخطوات رسائل إلى كلّ دول العالم أن البدائل موجودة وأنه ليس عليهم بعد اليوم الارتهان إلى أنموذج لا يحظى باحترامهم وقناعتهم ولا يشاطرهم الرؤى حول مصالحهم الوطنية.
كما أن أحد الارتدادات على المستويات الداخلية والذي سلّط الضوء عليه تصويت البرلمان العراقي هو الفرز الأكيد بين من يعمل لمصلحة قضية شعبه ووطنه وبين من يرهن إرادته للمحتلّ والمعتدي على أرضه، ويجب ألا نقلّل من أهمية هذا الارتداد في عصر اعتمدت فيه الولايات المتحدة على عملاء لها في بلدان كثيرة لتنفيذ مخططاتها وتوفير عناء القتال والتمويل على جيشها؛ فجندت جيوشاً من الخونة متخفين في بلدان عدة يأتمرون بأمرها ويحققون مصالحها.
ولا شك أبداً أن زحف الملايين في العراق وإيران لتشييع الشهيدين أبو مهدي المهندس والحاج قاسم سليماني كان استفتاءً مهماً وضخماً لمصلحة من نذروا أنفسهم لخدمة مصالح أوطانهم ووقفوا حصناً منيعاً في وجه كلّ من حاول النيل من هذه الأوطان حتى وإن دفعوا حياتهم ثمناً لذلك؛ فلا شك أن دماءهم سوف تشعل مشاعل الإخلاص والانتماء والوفاء للوطن وقضاياه بعيداً عن الخونة والعملاء المتآمرين عليه والذين يشغلون مواقع مهمة ولكن لمصلحة الأعداء.
وفي هذه الأثناء أتى تحرير عميد الأسرى السوريين صدقي المقت ليرسل رسالة مؤيدة لمسار الشهيدين في العراق وإيران، رسالة الصمود والتحدي للمعتدي والمحتل الإسرائيلي، ورسالة انتصار إرادة الأسير على إرادة السجانين والظالمين. هذه أوراق تضاف إلى سجلّ ثقافة المقاومة وهي أوراق لا يستهان بها ويجب اعتمادها واستخدامها في وجه كلّ من رهنوا إرادتهم للمال أو للشيطان.
كما أن الرسالة التي يجب ألا تُنسى هي أن العديد من قوى العالم تؤيد الحق حين تصل لها الرسالة بشكل سليم وواضح، ومن هنا يجب معالجة مناحي التقصير وعدم الركون إلى الدعايات الصهيونية والتي تحاول أن تُري أن العالم معها وأن تبث اليأس والقنوط في أنفس المنتمين والمؤتمنين على قضاياهم.
لقد بذل شهداء المقاومة حياتهم كي نحيا نحن جميعاً وقد يكون دور دمائهم الطاهرة بعد استشهادهم استكمالاً للدرب المحقّ الذي اختاروه والذي سيغيّر المنطقة والعالم لما فيه إحقاق الحق ونصر المظلومين وبسط الأمان والسلام بدلاً من الحروب والدمار، وما ذلك على اللـه بعزيز.
هذه حقبة جديدة بالفعل تتطلب منا رؤى جديدة وإستراتيجيات جديدة واجتراح أدوات جديدة تليق بحجم المهمة والهدف السامي الذي نسعى إلى تحقيقه.